تحوّل الحديث عن موازنة 2024 إلى ما يشبه "سيرة الحيّات". عدا المحاولات اليائسة لسبر مقدار "السموم" الكامن تحت "أنيابها"، فإنّ مجرّد فتح النقاش حول مادّة من موادها يجرّ وراءه "سوالف" لا تنتهي عن كيفية إقرارها وماهية تداعياتها.

أسبوعٌ بالتمام والكمال مرّ على إقرار موازنة 2024، ولا يزال الجميع، بمن فيهم النوّاب، يجهلون ماذا تتضمّن. فأول من أمس مثلاً، أعلن تجمّع الشركات المستوردة للمحروقات أنّ المحادثات مع المسؤولين بشأن الضريبة على الشركات التي استفادت من الدعم ليست على المبيعات (حجم الاعمال)، إنّما على الأرباح. ولم يكد الفهم الخاطئ لهذه "الغرامة"، خصوصاً من النواب، يدخل البلد في المحظور، حتى "ركد البخار" في رؤوس المستوردين، وجلسوا ينتظرون بإيجابية "النصّ النهائي من قبل المجلس النيابي الكريم، ليبنى على الشيء مقتضاه". وعادت الشركات إلى استئناف تسليم الموادّ النفطيّة.

فقدان المعرفة بنتائج الضرائب

يجمع كلّ من شارك في اللقاءات والاجتماعات التحضيرية للموازنة، وأطلّ من "بلكون" البرلمان على مناقشتها والتصويت عليها، على أمرين:

- الشكل النهائي الذي ستخرج به المواد، لا يتّفق مع ما أقرّته الحكومة وعدّلته لجنة المال والموازنة وصوّت عليه النواب.

- جهل الكثير من النواب بالمواد التي صوّتوا عليها، خصوصاً الضرائبية والمتعلّقة بالرسوم، وعدم امتلاكهم أيّ معرفة بما كانت عليه سابقاً، وما التداعيات التي ستتركها التعديلات على المواطنين والاقتصاد.

صدّق وانتهى

صدّق، صدّق. هكذا كانت وتيرة التصويت على المواد، وبالسرعة نفسها التي قرئ بها مطلع هذه الجملة. فما أقرّ من مواد يفتقد بعد النظر وينمّ عن جهل تام بالقوانين، ولا سيما الضريبية والتجارية"، يقول خبير المحاسبة المجاز والعضو في "جمعية مدراء مؤهلون لمكافحة الفساد" جوزف متّى. ومن الأمثلة على ذلك:

1- ورد في مشروع قانون الموازنة رفع رسم التسجيل على الشركات الجديدة من مليون ليرة إلى 500 مليون، أي أنّه تمّت مضاعفته 500 مرّة دفعة واحدة. وبعد النقاش استقرّ القرار في لجنة المال والموازنة على رفع الرسم إلى 46 مليوناً. وعلى الرّغم من ذلك، فإنّ تطبيق هذه المادّة يعني ببساطة أنّ الشركة تعتبر مفلسة حتماً، عند تأسيسها. ذلك أنّ الحدّ الأدنى لرأسمال الشركات 30 مليون ليرة. فكيف يمكن دفع رسم تسجيل أعلى من رأس المال المطلوب، إذ تنص المادة 216 من قانون التجارة على أنّه في حال "خسرت الشركة ثلاثة أرباع رأس المال وجب على أعضاء مجلس الإدارة أن يعقدوا جمعية عمومية غير عادية تقرّر ما إذا كانت الحالة تستوجب حلّ الشركة قبل الأجل أو تخفيض رأس المال أو اتخاذ غير ذلك من التدابير المناسبة".

2- رسم تأسيس المؤسسة في السجل التجاري رُفع من 750 ألف ليرة إلى 34.5 مليون ليرة. أي أنّه تضاعف 46 مرة.

3- تمّ "سلق" قانون رسم الطابع المؤلّف من 111 بنداً في المناقشات.

4- رُفعت ضريبة الأرباح على الشركات إلى 35 في المئة. في حين أنّها لا تتجاوز الـ 25 في المئة في أكثر الدول تشدداً في الضرائب، والتي تقدّم كلّ الخدمات للقطاع الخاص والمستثمرين من بنى تحتية وطرق وكهرباء ومياه وأمن وأمان وعمالة ماهرة ... . في لبنان كانت الضريبة على أرباح الشركات 17 في المئة، وتدفع الشركات ضريبة بنسبة 10 في المئة على توزيع الأرباح على المساهمين. ونتيجة للسرعة والفوضى اللتين اتّسمت بهما جلسة التصويت على الموازنة، فهم النواب عن طريق الخطأ أنّه يجب رفع الضريبة على الأرباح إلى 25 في المئة فصوّتوا عليها بالإيجاب. فأصبحت الضريبة على الأرباح 35 في المئة، إذا ما أضيفت 10 في المئة. وهذه ضريبة غير مسبوقة وستترك تداعيات سلبية جداً على قطاع الاعمال.

ويفيد جوزيف متّى بأنّه "في ثمانينيات القرن الماضي كانت الضريبة على الأرباح مقسّمة على مرحلتين، أي تصاعدية، إذا صحّ التعبير. إذ تُضاف إلى الحدّ الأدنى للضريبة الذي هو 17 في المئة نسبة معينة على الشطور كلّما ازداد الربح". مع العلم أنّ إعادة العمل بهذه الضريبة "يحقّق العدالة"، بحسب متّى، فإنّ "النواب اعتبروا هذه الآلية معقّدة، وصرفوا النّظر عنها".

الرسوم ارتفعت بنسب كبيرة

ومن الرسوم التي ستترك تداعياتها على المواطنين يذكر متّى:

- رفع رسم الطابع من 100 ليرة إلى 20 ألف ليرة، أي 200 مرة. وهو الطابع الذي يوضع على كلّ إيصال.

- رفع رسم طابع المختار من 5000 ليرة إلى 50000 ليرة.

- رفع رسم الطوابع على بيان إخراج القيد إلى 100 ألف ليرة.

قد تبدو الأرقام بمئات آلاف الليرات زهيدة إذا ما قرّشت بالدولار. إلّا أنّ معرفة أنّ الحد الأدنى للأجور هو 9 ملايين ليرة، وأنّ متوسّط ما يتقاضاه موظفو القطاع العام لا يتجاوز الملايين العشرة. تجعل الأرقام مخيفة. خصوصاً إذا ما أضيفت إلى أسعار الخدمات من ماء وكهرباء وهاتف ثابت ونقال... وخلافه.

التعميم 166

في إطار متّصل، يصدر مصرف لبنان، اليوم السبت، تعميماً جديداً سيحمل الرقم 166 وينصّ على السماح للمودعين الذين كانوا يستفيدون من التعميم 151 سابقاً على سحب 150 دولاراً "فريش" شهرياً. وعلى الرّغم من تخفيض الموازنة سعر الصرف إلى 89500 ليرة مقابل الدولار، فإنّ السحوبات من المصارف ستبقى مبدئيّاً على 15 ألف ليرة أو سعر أعلى بقليل بانتظار وضع المشترعين قانون الكابيتال كونترول.

على الرّغم من كلّ الضرر الذي تحمله الموازنة بتعديلاتها، فهي "تبقى بشكلها النهائي أفضل بما لا يقاس من المشروع الأساسي الذي تقدّمت به الحكومة"، من وجهة نظر متّى. "ولو أُقرّ كلّ ما وضعته الحكومة من ضرائب ورسوم لما بقي أحد في البلد".