كلّ الأجسام السياسيّة اللبنانية، وخصوصاً الأحزاب منها، تحتاج بعد تجاربها الصعبة والمديدة إلى مراجعة خياراتها وقراراتها وإعادة تقويم سياساتها، سواءٌ في مؤتمرات عامّة دورية، أو في جلسات نقاش وتفكير بين كوادرها العليا.

غير أنّ "حزب الله" هو الأشد حاجة إلى هذه المراجعة، ليس فقط لأنّه فولاذي التنظيم وذو قوة عسكرية وشعبية ضخمة، بل لأنّه صاحب وظيفة إقليمية تتعدّى النطاق الوطني اللبناني إلى التزام المشروع الإيراني التوسّعي الأكبر في المنطقة، بما لذلك من تأثير ضاغط على لبنان دولةً وشعباً وسيادة.

صحيح أن الجانب العقدي الإيديولوجي لديه، في ما يتصل بالتزامه "ولاية الفقيه" ومرجعية المرشدية الإيرانية، غير قابل للنقاش، بدليل وثيقتَيه التأسيسية 1985 والمطوَّرة 2009 اللتين تُثبّتان العقيدة نفسها مع بعض التعديلات الطفيفة كتغييب ذكر "الجمهورية الإسلامية في لبنان" لدواعٍ تكتيكية على مبدأ التقية، تفادياً لإثارة الحساسيات في هذه المرحلة.

غير أن الجانب السياسي الداخلي في أدائه قابل، مبدئيّاً، للمراجعة بفعل التطورات والمتغيّرات على مدى 42 عاماً من الممارسة بسلبياتها وإيجابياتها، ومواجهة الحقائق والوقائع.

ولعلّ طبيعة علاقاته بالمكوّنات السياسية والطائفية الأُخرى هي الأكثر إلحاحاً في جلسات "عصف الأفكار" التي يتوجّب عليه القيام بها، وربّما أنّه باشر بشيءٍ منها في الأسابيع الأخيرة تحت ضغط الانسدادات الميدانية والسياسية بفعل حرب غزّة وفرعها في "المشاغلة" عبر جنوب لبنان، وبفعل إخفاقاته الداخلية خصوصاً عجزه عن فرض مرشّحه الرئاسي.

ولا بدّ من أن تؤدي قراءته واقع هذه العلاقات إلى الاستنتاجات الواقعية الآتية:

صحيح أن علاقته بالبيئة السنّية، أحزاباً ومرجعياتٍ دينية، لم تعُد بالحدّة نفسها كما في السابق، بعدما سكبت عليها مأساة غزّة بعض الماء البارد، لكنّ ندوب الاغتيالات وعلى رأسها اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه وتطويق السرايا، وبعد ذلك اجتياح بيروت في أيّار 2008 وإسقاط حكومة سعد الحريري 2011 وكلّ ثغرات العلاقة إلى اليوم تحت العنوان الخائب "ربط النزاع"، لا تزال تتفاعل في وجدان القاعدة، ولم تنجح اختراقاته ضمن هذه البيئة في تطهير التهاب ذاكرتها الجماعية.

ومع المكوّن السياسي والمذهبي الدرزي ليست حاله أفضل، رغم حذاقة وليد جنبلاط وبرغماتيته ووسطيّة مواقفه الاستيعابية، ففي الوسط الاجتماعي والشعبي الدرزي حذر واضح على خلفية المحاولة التي قام بها "الحزب" لاجتياح الجبل من بوّابتَيه الساحلية عبر الشويفات عاليه والبقاعية عبر البقاع الغربي معاصر الشوف، في أيّار نفسه.

أمّا مع المكوّن المسيحي فقد بلغ "تفاهم شباط" 2006 الحالة البائسة الراهنة، بحيث لم يبقَ منه سوى صدى هزيل لبنده العاشر الذي يغطّي سلاحه بسبب عجز "التيّار العوني" عن التنصّل منه. وقد كان رهان طرفَيه على شموله أطرافاً أُخرى وتكريس مصالحة شعبية، لكنّه انتهى إلى افتراق وحذر من القمّة إلى القاعدة. فضلاً عن السوء المزمن في علاقة "الحزب" بالأحزاب المسيحية الأُخرى، وقد توّجها في الأيام الأخيرة، عبر وسائطه الاعلامية و"ذبابه الالكتروني"، بحملة تخوين وهدر دم ضد بكركي والقيادات المسيحية التي لا ترى رأيه.

ومن البديهي أن يؤدّي تشنّجه مع معظم الأطراف إلى ازدياد النفور وتعميق المأزق، وبروز اتجاهات وازنة للبحث عن صيغة حياة وطنية جديدة تكفل التنوّع ضمن الوحدة، وترفع عبء السلاح عن الدولة وعن رافضيه.

هل تقبل قيادة "حزب الله اللبناني" "التكليف الشرعي" من مرجعيته الإيرانية لتولّي المسؤولية في سوريا نيابةً عنها

وإلى ذلك، فإنّ جلسات التفكير والنقاش داخل قيادته لا يمكن أن تُغفل واقع بيئته نفسها، فهذه البيئة تضجّ بالأسئلة الحارّة والحائرة حول انخراطه في حروب ترتدّ عليها دماراً وموتاً ونزوحاً ونزفاً اجتماعياّ واقتصادياً وشكوكاً في المصير، ولو تحت شعارات القوة والردع والكرامة والانتصارات.

وقد بدأت الأصوات ترتفع في هذه البيئة المعانية، ليس فقط من النُخَب الوطنية التكوينية الحرّة داخل الطائفة، بل أيضاً من الفئات الشعبية التي لم تعُد قادرة على الاحتمال، ويكفي في هذا السياق الاستماع إلى شكاوى عشرات آلاف النازحين من القرى الحدودية.

إضافةً إلى المساكنة القلقة والمفروضة إيرانياً وسورياً بينه وبين "حركة أمل" منذ صداماتهما الدموية الخطيرة في الثمانينات المنصرمة، وهي مساكنة قائمة على تقاسم مكتسبات الدولة ووظيفة السلاح. فهما يلتقيان على هذا التوزيع في الداخل، ويفترقان على المشروع في الخارج، بحكم التباعد بين "لبنانوية" الحركة عملاً بوصايا الإمام الصدر والشيخ شمس الدين والعلّامة فضل الله، و"إيرانوية" الحزب بفعل التصاقه بـ"ولاية الفقيه"، بحيث يصحّ توصيف الأولى بـ"الشيعية السياسية" والثاني بـ"الشيعية العسكرية".

وفوق هذه المعضلات الداخلية التي يعانيها "حزب الله"، من المنطقي أن يتوسّع "عصفه الفكري" إلى مراجعة وظائفه الإقليمية، في حال كان لديه شيء من المسافة الحرة عن مرجعيته كما يكرّر السيّد حسن نصرالله في إطلالاته، خصوصاً بعد افتضاح حقيقة الانكفاء الإيراني عن الانغماس المباشر في الحرب ضدّ إسرائيل والولايات المتحدة، وسحب طهران ضبّاطها الكبار من سوريا، وطلبها من "حزب اللّه" العراقي وقف عملياته ضد القواعد الأميركية.

فهل تقبل قيادة "حزب الله اللبناني" "التكليف الشرعي" من مرجعيته الإيرانية لتولّي المسؤولية في سوريا نيابةً عنها، بسهولة وبساطة؟

وهل يرضخ للتسوية - الصفقة في الجنوب بما فيها تجرّعه الكأس المرّة في شأن سحب سلاحه ومقاتليه إلى شمال الليطاني والتنفيذ الكامل للقرار 1701؟

إنّها موضوعات وإشكاليات ثقيلة ومصيرية يواجهها "الحزب" في الداخل والخارج، وهو الآن في مأزق لا يُحسد عليه بين فرائض عقيدته ونقائض واقعه. وهناك صعوبة، بل ربّما استحالة في التوفيق بينهما.

فلعلّه يكون قادراً على الخروج بنتيجة إيجابية من "جلسات الصفاء الفكري"، الافتراضية أو الفعلية، ويصحّح علاقاته المختلّة مع سائر اللبنانيين، ويُعقلن وظائفه الخارجية، بعد أن يتبصّر بعمق في حاله ومآله.