أصبح العالم الرقمي اقتصاداً قائماً بذاته، له توجهاته وقوانينه وأطره التي ترعى عمله، حتى أن مصطلح الاقتصاد الرقمي لقي رواجاً بين الناس والمؤسسات الإعلامية، وهو، ببساطة ، تصوّر ل‍قطاع الأنشطة الاقتصادية ذات الصلة ب‍التقنية الرقمية. إلّا أنّ وراء هذا التعريف المبسّط، قصّة بدأت مع دون تابسكوت، مدير الأعمال والإستراتيجي الكندي، الذي كان خلف إطلاق مفهوم الاقتصاد الرقمي في العام 1995. وكان الإنترنت، سنتذاك، في بدء نشأته كشبكة عالمية، إذ صدر أول متصفّح تجاري لشبكة الإنترنت في أواخر العام 1994. 

وكان تابسكوت قد وضع كتاباً عنوانه "الاقتصاد الرقمي: الوعد والخطر في عصر الذكاء الاتصالي". ويعتبر هذا الكتاب في طليعة الكتب التي نظرت إلى الإنترنت كطريقة لأداء الأعمال. وتطوّر هذا المصطلح تطوراً كبيراً في مختلف أنحاء العالم. 

تكنولوجيات الاقتصاد الرقمي 

أمّا اليوم فيتّسم الاقتصاد الرقمي بتكنولوجيا كانت غير معروفة وقت ظهوره كمفهوم، ومنها النفاذ إلى الحزمة العريضة الثابتة بسرعة تبلغ عشرات الميغابتات في الثانية، والحزمة العريضة النقالة، والهواتف الذكية وتطبيقاتها، والمواقع الشبكية التفاعلية، والشبكات الاجتماعية، والمنصات التشاركية، والحوسبة السحابية، وإنترنت الأشياء. وتجسّد هذه التكنولوجيا الإمكانات المنبثقة من القوّة الشبكية للاقتصاد الرقمي وقدرته على إعادة تعريف التعاون والقيادة، ورفع الإنتاجية البشرية، وبدء القضاء على العديد من الصناعات وتحدّي قوة الشركات القائمة. وبات ذلك حقيقة في معظم البلدان المتقدّمة والناشئة، ممّا أثْر إيجاباً في إمكاناتها على صعيدَيْ النمو والتنمية. 

القيمة السوقية لأكبر الشركات الرقمية 

في هذا الإطار، يشرح لـ"الصفا نيوز" شربل عون، الشريك المؤسس لشركة it geek التي تعنى بالتسويق الرقمي وبرمجة المواقع الالكترونية، أنّ "الاقتصاد الرقمي أدّى إلى ظهور العديد من الاتجاهات الجديدة والأفكار والشركات العملاقة مثل شركة غوغل (وصلت قيمتها السوقية في العام 2023 إلى 1.5 تريليون دولار) وأبل (بقيمة سوقية بلغت 2.96 تريليون دولار) ومايكروسوفت (بلغت قيمتها السوقية 3 تريليونات دولار) وأمازون (بلغت قسمتها السوقية 1.67 تريليون دولار) وهي من أشهر الشركات العالمية التي تعتمد على النظام الرقمي". 

تّسم الاقتصاد الرقمي بتكنولوجيا كانت غير معروفة وقت ظهوره كمفهوم، ومنها النفاذ إلى الحزمة العريضة الثابتة بسرعة تبلغ عشرات الميغابتات في الثانية
صنع محتوى الإنترنت والمعلومات 

ويضيف عون "بحسب مراجعة شاملة ومفصّلة للاتجاهات والأحداث الأخيرة في البيئة الاقتصادية العالمية، تُعدّ صناعة محتوى الإنترنت والمعلومات الأكبر من حيث القيمة السوقية، وكان النمو السريع للأجهزة المحمولة محرّكاً رئيسياً لنموّ هذه الصناعة، إذ أدّى إلى زيادة الطلب على محتوى الإنترنت وتطبيقاته. فعلى سبيل المثال، في العام 2019، تمّ تنزيل أكثر من 204 مليارات تطبيق للهواتف المحمولة في أنحاء العالم، وهذا ما أدّى إلى تحقيق إيرادات بلغت 462 مليار دولار، كما أنّ الموسيقى الرقمية والألعاب عبر الإنترنت تسهم في نمو هذه الصناعة". 

ويوضح أن "قيمة الطلب المتزايد على التطبيقات والأجهزة التي تساعد على الاتصال السريع بالمعلومات تخطّت حاجز الـ 9 تريليونات دولار في العام 2020. ممّا عاد بالفائدة على جميع أنواع الصناعات، وأيضاً تجاوزت إيرادات الإنترنت في قطاع التكنولوجيا والاتصالات وازدادت المبيعات". 

سوق الهواتف الذكية والبرمجيات 

ويشير عون إلى أنّ "بعض التقارير توقّعت أن ينمو حجم سوق الهواتف الذكية من 1.45 مليار وحدة في العام 2023 إلى 1.78 مليار وحدة في العام 2028 ، بمعدل نمو سنوي مركب قدره 4.10٪ خلال فترة التنبؤ (2023-2028).
ووفقاً لشركة الأبحاث والاستشارات التكنولوجية الأميركية "غارتنر"، تهيمن على سوق برمجيات البنية التحتية شركات مثل مايكروسوفت وأوراكل و"آي بي إم كوربوريشن"، والسوق الأكبر تعدّ أميركا الشمالية. وفي هذه الصناعة يشهد قطاع "البرمجيات كخدمة" نمواً قوياً، وما يقرب من 90% من المؤسسات يستخدم خدمة سحابية واحدة على الأقل، ومن المتوقّع أن تزيد من استخدامها لـ "البرمجيات كخدمة" في العام المقبل، وأن يؤدّي التحوّل إلى السحابة وتقنيات هذه البرمجيات، إلى زيادة كبيرة في الإنفاق على تكنولوجيا المعلومات، مع ذهاب حوالى 65.9% من الإنفاق على البرمجيات إلى هذه التقنيات، في العام 2025 ". 

وعن سوق البرمجيات التطبيقية بالعالم، يقول "تفيد التوقّعات بأن يبلغ حجم هذا السوق حوالى 328.3 مليار دولار، في العام 2032، مسجّلا ارتفاعاً من 155.64 مليار دولار في العام 2022. ومع تطور التطبيقات المستندة إلى السحابة وظهور الذكاء الاصطناعي وتكامل تعليم الآلة والتركيز على الأمن السيبراني، تشهد صناعة البرمجيات التطبيقية طلباً متزايداً في السوق". 

6 عوامل ستؤثر في توجهات الاقتصاد الرقمي في 2024 

على مقلب آخر، حدّد التقرير الصادر عن منظمة التعاون الرقمي، والذي حصل "الصفا نيوز" على نسخة منه، 6 عوامل من المتوقع أن تشكل تأثيراً كبيراً في الاقتصاد الرقمي، مشيراً إلى أنّها تُعد عوامل محورية في تطوّر المشهد الرقمي، وأنّه سيكون لكلّ توجه تأثير اجتماعي واقتصادي يُسهم في التحول الرقمي خلال العقد المقبل. وهذه العوامل هي: الذكاء الاصطناعي، واقتصاد الثقة، والواقع الرقمي، والأمن السيبراني، والأنظمة البيئية الذكية، والاقتصاد الأخضر”. 

ويُذكر أن منظمة التعاون الرقمي هي منظّمة عالميّة متعدّدة الأطراف تأسّست في تشرين الثاني 2020، وتهدف إلى تمكين الازدهار الرقمي للجميع من خلال تسريع النمو الشامل للاقتصاد الرقمي، وتجمع منظمة التعاون الرقمي بين وزارات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في الدول الأعضاء ويبلغ عددها 15، هي: البحرين، وبنغلاديش، وقبرص، وجيبوتي، وغامبيا، وغانا، والأردن، والكويت، والمغرب، ونيجيريا، وعُمان، وباكستان، وقطر، ورواندا، والسعودية. وتمثّل الدول الأعضاء مجتمعةً ما يفوق 3.3 تريليون دولار في الناتج المحلي الإجمالي، وسوقاً تضم أكثر من 800 مليون شخص، نحو 70 في المئة منهم دون سن الـ35 عاماً. 

قواعد الاقتصاد الرقمي 

وتشير التوقّعات في ما يخص الذكاء الاصطناعي بوصفه أحد التوجّهات التي ستغيّر قواعد الاقتصاد الرقمي، إلى أنّه سيحقق قيمة سوقية بمقدار 207 مليارات دولار في العام 2030، وهذا التوقّع مبنيّ على توجه القطاعين العام والخاص إلى استخدام الذكاء الاصطناعي لتحسين العمليات وتعزيز الكفاءة. 

ويضيف التقرير: "بالتوازي، من المرتقب أن تشهد التكنولوجيا الخضراء طفرة مماثلة، بتسجيل نمو في حجم سوقها ليصل إلى 83 مليار دولار في العام 2032، مما ينعكس بشكل كبير على تقدّم الاقتصاد الأخضر. في حين يُنتظر أن تبلغ سوق الواقع الرقمي 1.35 مليار دولار في العام 2030″. 

الذكاء الاصطناعي 

بناء على ما تقدّم، اعتبر الخبير التكنولوجي رامز القارا في حديثه لـ"الصفا يوز" أنّ "من أهمّ العوامل التي ستدعم الاقتصاد الرقمي في السنوات المقبلة نذكر الذكاء الاصطناعي الذي عرف عبر تطبيقات chat gpt وغيرها من أدوات الذكاء الاصطناعي التي تصنع محتوى مكتوباً أو مصوّراً كفيديوهات بتقنية الـdeepfake وباستطاعتها تفريغ محتويات رقمية. فكلّ هذه الأدوات ستعزز الاقتصاد الرقمي وتخلق فرص عمل هائلة في مجال العمل في قطاع الذكاء الاصطناعي وتالياً الاقتصاد الرقمي". 

اقتصاد الثقة 

ولفت إلى أنّ "الثقة التي ستُبنى من خلال اقتصاد الثقة، عبر التعاون الحاصل بين الجهات الحكومية والقطاع الخاص، وتكثيف الجهود على خلق قوانين لتنظيم هذا القطاع، ستعزز ثقة المتعاملين في الاقتصاد الرقمي، وهذا ما سيرفع من استخدام هذه التقنيات ويشجع كلّ من لا يثق بالذكاء الاصطناعي على استخدام تقنياته، وتالياً سيفتح أمامه أسواقاً جديدة تعود بالمزيد من الأرباح على الشركات". 

كذلك أصبح الواقع الرقمي في البلدان مؤشّراً أساسياً إلى مدى تطوره، بحسب القارا، "لبنان، على سبيل المثال، يعاني من واقع رقمي سيئ، إذ ما من خدمات الكترونية متطورة، ولا يمكننا تطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي من دون وجود مكننة، وعليه، فإنّ الاقتصاد الرقمي في لبنان لن يتطوّر في ظلّ غياب السياسات الحكومية. وهكذا يفرض التطور الرقمي نفسه على الدولة". 

الأمن السيبراني 

ومن التحديات الكبيرة التي يواجهها الاقتصاد الرقمي، يذكر القارا، "الأمن السيبراني، فكلّما زادت الشكوك بقدرة الأنظمة الالكترونية على حماية نفسها من الاختراق بات أصعب على الأفراد الوثوق بها، وتالياً من الضروري تطوير تقنيات الأمن السيبراني للتأكّد من أنّه سيضمن سرّية المعلومات واستتباعاً يقلّل الخطر. وقد تؤدي زيادة الهجمات الالكترونية في الفترة الأخيرة إلى تراجع الثقة بالاقتصاد الرقمي، لذلك يجب إيجاد حلول وتقوية الأمن السيبراني، فيخلق ذلك بدوره الكثير من فرص العمل وينعش الاقتصاد". 

وعن الأنظمة البيئية والذكاء الأخضر ختم القارا "توجّهُ العالم إلى الاقتصاد الأخضر، من خلال اعتماد تقنيات صديقة للبيئة، في محاولة لتخفيض معدّلات التلوث، سيزيد من الاعتماد على الأنظمة الرقمية، وهذا سيقوّي سوق السيارات الكهربائية، وأنظمة الطاقة الشمسية، وغيرها من الأنظمة الالكترونية. وهذه القطاعات أيضاً ستفتح مجالات عمل جديدة".