منذ "النكّبة" عام 1948 ولبنان الدولة التي دفعت الفاتورة الأكبر عن القضية الفلسطينية ليس فقط جراء أداء "فتح" وأخواتها - التي لم تحترم حسن الضيافة بل استباحت الدولة وسيادتها - بل أيضاً بسبب طموحات مكوّنات لبنانية عدّة حوّلت القضية الفلسطينية إلى "حصان طروادة" إمّا لرفع حرمان تشعر به أو لإدخال إصلاحات تطمح إليها أو لتغيير موازين القوى ديمغرافياً وتالياً طائفياً وصولاً إلى ترجمة ذلك سياسياً.

بادئ ذي بدء كان التضامن مع اللاجئين الفلسطينيين عابراً للطوائف والمناطق وغير محصور بالمسلمين من دون المسيحيين. خير دليل أنّ بعض المخيمات التي أنشئت لاستقبالهم كانت على أراضٍ للكنيسة كمخيم الضبية الذي شيّد على أراضٍ للرهبنة اللبنانية المارونية، ومخيم مار الياس الذي شيّد على أرض وقف كنيسة مار الياس الأرثوذكسية.

لكنّ ممارسات الفلسطينيين بدّدت هذا التضامن، إذ:

* تصاعدت عملياتهم العسكرية انطلاقاً من جنوب لبنان في منتصف ستينيات القرن الماضي إذ تحوّل جزء منه إلى "فتح لاند" وأضحى أهالي القرى الحدودية متاريس بشرية. بالأمس كما اليوم يتفرّد فصيل مسلّح بقرار فتح الجبهة غير آبه بالدولة اللبنانية وخيراتها.

* تحوّل لبنان إلى قاعدة لانطلاق العمليات الأمنية الفلسطينية إلى أنحاء العالم. الأمر الذي عرّضه للاعتداءات الإسرائيلية كالهجوم على مطار بيروت في 28 كانون الأول 1968، حيث دُمّرت 13 طائرة إجمالي قيمتها 43.8 مليون دولار وذلك ردّاً على الهجوم على طائرة تابعة لشركة "العال" الإسرائيلية من قبل "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" التي كانت تتّخذ من لبنان مقرّاً لها. كذلك الأمر مع عملية فردان ليلة 9 نيسان 1973، واغتيال ثلاثة من كبار القادة الفلسطينيين، بينهم محمد يوسف النجار "أبو يوسف" قائد عمليات منظمة "أيلول الأسود" رداً على تنفيذ المنظمة عملية ميونيخ خلال الألعاب الأولمبية.

* الانفلاش الفلسطيني المسلّح في الداخل وما رافقه من اشتباكات متكرّرة مع الجيش اللبناني وقوى الأمن وقد توّج بـ "اتفاق القاهرة" في 3 تشرين الثاني 1969. هذا الاتفاق أسبغ الشرعية على وجود المقاومة الفلسطينية وعملها في لبنان. إلّا أنّه عوض أن يضبط الوضع ساهم في تعاظم "فائض القوة" الفلسطيني وكان من ثماره اختطاف الشيخ بشير الجميل عام 1970 مروراً بالمواجهات التي اندلعت في 2 أيار 1973، على خلفية خطف "الفدائيين" بعض عناصر الجيش وانتهت بتوقيع "اتفاق ملكارت" في 17 أيار 1973، وصولاً إلى الانفجار الكبير في 13 نيسان 1975.

* تدخّل الفلسطينيين، وعلى رأسهم ياسر عرفات، في تفاصيل الحياة السياسية اللبنانية، وتحريكه عدداً كبيراً من السياسيين من نواب ووزراء.

لا بدّ أن يشمل "مخاض" "لبنان أولاً" الذي تمدّد داخل المكوّن المسلم، الطرف الشيعي بسواده الأعظم.

رغم كلّ ذلك، كان لبنان أمام مشهدية انقسام عمودي بين المكوّن المسيحي المتمثّل بـ"الجبهة اللبنانية" والذي واجه التمدّد الفلسطيني وبين المكوّن المسلم إلى جانب القوى اليسارية والعروبية والقومية السورية والمتمثّل بـ"الجبهة الوطنية". يومذاك كانت "فلسطين أولاً" لدى هذا الفريق و"لا صوت يعلو فوق صوت مدفعها". كما بلغت "عنجهية السلاح الفلسطيني" إلى حدّ اعتبار عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح" "أبو أيّاد" في مهرجان خطابي أقيم في جامعة بيروت العربية في 23 أيار 1976، أنّ "شهداء الثورة الفلسطينية الذين قتلوا في عيون السيمان وعينطورة وصنّين، سقطوا لأنّ طريق فلسطين ﻻ يمكن أن تمرّ إﻻّ في عيون السيمان وجونيه".

في زمن "فتح لاند" كان لكلّ من الأطراف داخل المكوّن المسلّم أسبابه وحججه:

* الطرف السنّي كان مسكوناً بالعروبة بأوجهها المتنوعة من البعثية إلى الناصرية، ولكن أكثريته ميالة إلى العروبة المسلمة. فاعتبر أنّ "الفلسطينيين هم جيش المسلمين في لبنان" وأنّ الأخير "من الوجهة الجغرافية والتاريخية كان جزءاً من الخلافة الإسلامية والميثاق الوطني لسنة 1943 لم يكن سوى حادث عرضي". بلغ الأمر حدّ طلب السيد حسين القوتلي مدير عام دار الإفتاء بـ"استبدال الحكم الماروني في لبنان بحكم إسلامي، لأنّ العقيدة والفقه والمناهج الحياتية الإسلامية لا تستقيم إلّا بحكم المسلمين للمسلمين" (صحيفة "السفير" 18 آب 1975).

* الطرف الشيعي كان يبحث عن حاضنة في ظلّ تهميش الطائفة التي كانت محرومة من إطار تنظيم لها قبل الإمام موسى الصدر وتأسيسه المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى. فانضوى شبابه في "فتح" والفصائل الفلسطينية كما في الأحزاب اليسارية في ظلّ الفراغ الذي كانت تعانيه الطائفة قبل تأسيس الصدر حركة "أمل" التي انكشف أمرها عقب انفجار أودى بحياة نحو 35 شاباً جميعهم من الشيعة خلال خضوعهم للتدريب في معسكر لحركة فتح في قرية عين البنية، قضاء بعلبك.

* الطرف الدرزي متمثّلاً بزعيمه الأساسي رئيس الحزب "التقدمي" كمال جنبلاط الذي رأى في العامل الفلسطيني فرصة تاريخية للانقضاض على "المارونية السياسية" وإطاحة النظام الطائفي الذي يكبّل طموحه ودوره السياسي كدرزي.

أمّا اليوم في زمن "طوفان الأقصى" الذي انطلق في 7 تشرين الأول 2023، طرح "لبنان أولاً" - الذي تبلور عبر السنوات وأصبح حاضراً بشكل وازن مع "ثورة الأرز" عام 2005 لدى المكوّن المسلم في الطرفين السني والدرزي – نجح في أن يبقى صامداً وإن ترنّح بعض الشيء جراء الحماسة العاطفية للعملية ضدّ إسرائيل.

عوامل عدة تغيّرت عن السبعينيات:

* حلم الأمّة العربية الواحدة أضحى أطلالاً والطموح بالانصهار في كيان أوحد استُبدل بهويات وطنية تشكّل أولوية لشعوبها. كما أنّ تطبيع الدول العربية مع إسرائيل يتدحرج كـ"كرة الثلج".

* ولادة "معاهدة أوسلو" التي وقّعت "منظّمة التحرير الفلسطينية" صاحبة المشروعية الوطنية الفلسطينية عبر الزعيم التاريخي ياسر عرفات في واشنطن اتفاق سلام مع إسرائيل في 13 أيلول 1993.

* مشهد التظاهرات الداعمة لفلسطين التي كانت تجتاح بيروت في السبعينيات غاب عنها في زمن "طوفان الأقصى"، كذلك اندفاعة آلاف اللبنانيين للانخراط في صفوف المقاومة الفلسطينية وتقديم التبرّعات المادية.

كذلك تغيّر واقع الأطراف داخل المكوّن المسلم:

* الطرف السنّي يؤيّد حكماً "طوفان الأقصى" وضرب "حركة حماس" الإخوانية لإسرائيل كونه يؤيّد أي طرف يقدم على ذلك. إلّا إنّه لا يؤيّد "حماس" كتأييده الساحق لـ"فتح" لإدراكه عمقها الأصولي الديني من جهة، ومدى ارتباطها بالجمهورية الإسلامية في إيران من جهة أخرى. كما أنّه بعد "الطائف" يشعر بصدق شراكته في الحكم، لذا لم نشاهد مواقف تصدر عن دار الفتوى شبيهة بمرحلة السبعينيات. كذلك استشهاد الرئيس رفيق الحريري شكّل معمودية دمه مع "لبنان أولاً" خصوصاً أنه يرى أنّ كل فريق من سُنّة العالم العربي يعمل لمصحلة وطنه أولاً. لذا يقول لسان حال الشارع السنّي الداعم لـ"طوفان الاقصى" إنّ دعمنا معنوي ولكن لا نحتمل أضرار أيّ حرب شاملة في لبنان.

* الطرف الدرزي أدرك أنّ المغامرة التي خاضها في زمن "فتح" لم تجدِ نفعاً ودفع ثمنها دم زعيمه كمال جنبلاط. كما أنّ "لبنان أولاً" في صلب هوّيته كشريك مؤسس لخصوصية جبل لبنان ولا صوت يعلو لديه فوق صوت "التمسّك بمصالحة الجبل". خير دليل مسارعة زعيمه وليد حنبلاط للاعتذار والتراجع عن مقولة إنّ "لبنان أولاً" سخافة.

* الطرف الشيعي تموضع بشكل ساحق في صفوف الثنائي "حزب الله" و"أمل" مشكّلاً حاضنة لأبنائه الذين كانوا في صفوف الجماعات الفلسطينية فانضووا في صفوفه. وخير رمز لهذا التحوّل هو القيادي الراحل في "الحزب" عماد مغنية. إن لم يكن "لبنان أولاً" في الصدارة لديه، فمن المؤكد ليست "فلسطين أولاً" جرّاء "الأمة أولاً" لدى "الحزب" من جهة، وعدم انخراط "أمل" في الحرب فعلياً وتمسّكها في أعماق أعماقها بالبعد اللبناني الذي أوصى به الإمام الصدر، من جهة أخرى.

لذا لا بدّ أن يشمل "مخاض" "لبنان أولاً" الذي تمدّد داخل المكوّن المسلم، الطرف الشيعي بسواده الأعظم. ولا بدّ أن يثمر وطناً يستوعب جميع مكوّناته.