تابع اللبنانيون عبر الشاشات جلسات مناقشة الموازنة العامة، كلمات ومداخلات ومشاحنات تعطي صورة عن نظام ديمقراطي برلماني. ولكنها صورة فقط. فالنظام معتلّ وعاجز. مجلس نيابي يناقش حكومة تصريف أعمال لم تنل ثقته، في ظلّ فراغ رئاسي مستمرّ منذ أكثر من سنة، ويعجز عن ملئه. مجلس لا يزال يناقش مشروع قانون الكابيتال كونترول حتّى اليوم في حين كان يفترض به أن يأخذ قراراً بشأنه منذ العام 2019 مع بداية الانهيار المالي، بما يحفظ حقوق الناخبين بالدرجة الأولى.

المجلس صورة عن الوطن بشكل ما، من خلال تمثيل الأحزاب السياسية والزعماء الذين يحضر بعضهم في القاعة شخصياً في حين يحضر بعضهم الآخر عبر ممثليه، ويحلو للجماهير الحزبية أن تصدّق أنّ هؤلاء يمثلونهم فعلاً. لكن ما دام هذا هو حال الوطن، فالمجلس ليس بأفضل حال منه.

لن نخوض في أرقام الموازنة ولا بفذلكتها أو "فذلكات" منتقديها كما فعل المدافعون عنها. ولكنّنا نسأل عمّا ستوفره هذه الموازنة لـ"المواطن العادي" من تقديمات من دون أن نغفل أن أرقامها مبنية على زيادات في الرسوم والضرائب سيكون على المواطن تسديدها من جيبه إذ لا يستطيع تسديدها من حسابه المصرفي الذي لا تزال المصارف تتحكم بمصيره. صناديق الدولة فارغة وللدقة وللواقعية "مديونة"، فمن أين ستأتي بالمبالغ التي أوردتها في موازنتها لتسيير عملها، مع العلم أنّ التسيير يعني دفع أجور المحازبين والأتباع الذين يحملون رتبة موظف. فإن كانت عين الدولة على جيب المواطن، فالواضح أنّها ستخرج من المولد بلا حمّص". فالمواطن العادي الذي يسدد الضرائب والرسوم وكل واجباته، كمثل دفعه فاتورتَيْ مياه وكهرباء رغم انقطاعهما ومثلهما لمورّد مياه ومولّد كهرباء، لم يعد قادراً على تلبية متطلباته الحياتية اليومية بحدّها الأدنى. فهل سيكون قادراً على دفع زيادات ستذهب إلى الموظف المحازب الذي لا يعمل؟

فإن كانت الصناديق فارغة، فالموازنة تأتي في الوقت الضائع، ولا مكان هنا لتسجيل الأهداف القاتلة إلّا في مرمى المواطنين العُزّل العاجزين عن التصدّي لممارسات سلطة بأغلب مكوّناتها اليوم، كانت هي المسؤولة عن انهيار البلاد نتيجة سلوكها وقراراتها وقوانينها منذ سنوات طويلة. والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى، وإن كان أهمّها السماح للحكومات المتعاقبة بالاستدانة بالعملة الصعبة من دون محاسبة أو مساءلة، ما دامت الحكومة تمثّل البرلمان وكلاهما يحظى بدعم الوصي الإقليمي والراعي الدولي وحمايتهما. ولا داعي للحديث عن الهدر والفساد، فأركان السلطة يتهمون بعضهم بعضاً بارتكابات يُندى لها الجبين.

لو أنّ الموازنة لم تُطرح ولم تُقرّ فهل كانت حال البلاد ستتغير؟ وماذا سيغيّر إقرارها من الواقع الحياتي؟

لن نتوقّف عند مسألة انعقاد الجلسة لسبب آخر غير انتخاب الرئيس، مع العلم أنّ جلسة الانتخاب هي الجلسة الوحيدة المطلوبة. ولن نطيل باستعراض كلمات من صوّت لمصلحتها أو من صوّت ضدّها، ولا تلك الجمل أو الألفاظ التي حُذفت من المحضر. هي موازنة تقدّمها حكومة لا تحظى بثقة المجلس النيابي، فكيف الآلية لمحاسبتها، وهي أصلاً حكومة مستقيلة وفي حالة تصريف أعمال؟ من المسؤول إذا أخفقت أو إذا أخطأ بعض الوزراء في إدارة شؤون وزاراتهم؟

سنتوقف عند نقطة، نعتقد أنّها الأهم في ما يحصل، وتتمثّل بالسؤال عن معنى هذا الإنجاز في إقرار موازنة. فلو أنّ الموازنة لم تُطرح ولم تُقرّ فهل كانت حال البلاد ستتغير؟ وماذا سيغيّر إقرارها من الواقع الحياتي؟ ها هي البلاد من دون رئيس ويتصرّف البعض كأن لا بأس، ولا أحد في عجلة من أمره لمعالجة هذا الخلل. قبل انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أوحى البعض كأنّه عند مغادرة مكتبه سينهار مصرف لبنان ويقفل أبوابه، بل سينهار البلد كلّه. غادر الحاكم وتسلّم مهماته نائبه ليصبح الحاكم بالإنابة، والحالة، الآن، كأنّ "البلد ماشي والشغل ماشي". لم يحصل الأمر نفسه مع مسألة قيادة الجيش إذ تدخلت آخر سفارات المعمورة للحؤول دون ذلك، فمدّد المجلس النيابي ولاية القائد عاماً إضافياً رغم بلوغه سنّ التقاعد. ولكن، هل كان سيتغيّر شيء فعلاً لو شغر الموقع؟

قدرة البلاد على الاستمرار وإصرار المواطنين على مواصلة حياتهم رغم كل شي،ء رغم اختلال السلطة، رغم الحروب، ورغم الانهيار المالي، ورغم الشغور الرئاسي وتصريف الأعمال وتشكيكهم في شرعية أو دستورية الجلسات. لا بد من التوقف عند مسألة القدرة هذه طويلاً. فإلى متى سيؤجّل هذا المواطن مواجهة السلطة؟ وإلى متى سيبقى متمسكاً بهويته وأرضه في ظل كلّ ما يمارس بحقّه من ظلم وإجحاف وسوء معاملة؟