كسرت موازنة 2024، المزمع إقرارها هذا الأسبوع، العديد من الأرقام القياسية، أقلّه إذا ما قورنت بموازنات الأعوام الأخيرة. رُفعت إلى البرلمان ضمن المهل الدستورية. حظيت بمواظبة لجنة المال على درسها وتعديلها. ظفرت بتعليق المقاطعة التشريعية إثر دعوة رئيس مجلس النواب الهيئة العامة، يومي الأربعاء والخميس، إلى مناقشتها والتصويت عليها. لاقت ترحيب قطاع الأعمال وموافقته، بعد أخذ ملاحظاته في الاعتبار من قبل لجنة المال. صفّرت العجز. صوّبت الكثير من التجاوزات التي تخالف قانون المحاسبة العمومية، ولا سيما في ما يتعلّق بالسلفات وإقرار الهبات.

ما تقدّم كان قد سبقته حملة ترويجية للإنجاز المحقّق، لنيل الفضل الإصلاحي، وللضغط معنوياً على الكتل النيابية لإقرار الموازنة بتعديلاتها، كي لا تقرّها الحكومة بعيوبها. فبعد انتهاء لجنة المال من وضع ملاحظاتها على المشروع، وقبل توزيعها في تقرير، خرجت أبرز وسائل الاعلام نهاية الأسبوع الماضي بشبه فرمان موحّد، من حيث المضمون، يعظّم التعديلات في ظاهرة تذكّر بنهج الاحزاب الشمولية. ومع هذا لا تزال هذه الموازنة بتعديلاتها "من أسوأ الموازنات على الاطلاق"، بحسب مدير المحاسبة العامة السابق في وزارة المالية أمين صالح. "فهذه الموازنة أُعدّت في خضمّ أزمة مالية اقتصادية نقدية معيشية لم يسبق لها مثيل في لبنان، مترافقة مع تعدّد أسعار الصرف، وتضخم هائل تجاوز 230 في المئة ودين عام كبير. وقد قوبل هذا الواقع بتخفيض العجز "فولكلوريا" وزيادة مفرطة في الضرائب والرسوم".

موازنة تضخّمية لا إصلاحية

كي لا نغرق في التفاصيل، فإنّ هذه الموازنة من وجهة نظر صالح "عبارة عن رواتب بنسبة 60 في المئة، وفوائد، وضرائب. وليس فيها أيّة معالجة لأيّة مشكلة من المشكلات الاقتصادية التي يعانيها البلد". أمّا بالنسبة إلى تعديل حجم الإيرادات المتوقّع تحقيقها والتي تقرب من 295 ألف مليار ليرة (3.3 مليار دولار تقريباً) فقد نتجت عن زيادة الرسوم والضرائب، خصوصاً أنّ الموازنة المرسلة من الحكومة كانت تتضمّن إيرادات بقيمة 260 ألف مليار ليرة، وكان هناك قروض بقيمة 40 ألف مليار ليرة، فانتهت برفع الإيرادات إلى 295 ألف مليار ليرة وتصفير العجز من دون الحاجة إلى الاقتراض. فتمّت زيادة 35 ألف مليار ليرة من الضرائب والرسوم. في المقابل لم يتجاوز الإنفاق على البنى التحتية 5 في المئة من مجمل النفقات، وتمّ ترحيل كلّ قوانين البرامج إلى السنوات المقبلة. وهذا يعني أنّ الحكومة لا تعتزم إصلاح البنى التحتية ومعالجة مشكلات الطرق والمياه والكهرباء والاتّصالات والمواصلات والأبنية الحكومية. وتالياً هناك ضرائب لا تقابلها خدمات. ويؤدّي ذلك إلى المزيد من الانكماش في السوق والمزيد من الفقر والبطالة والهجرة. وهذه الكمّية الكبيرة من الضرائب ستقتطع من مداخيل المواطنين وستقلّل الطلب على السلع والخدمات، ما يخفّض الضغط على سعر الصّرف". وبحسب صالح "يدّعي المسؤولون أنّ سياسة رفع الرسوم الجمركية أدّت إلى خفض الاستيراد وتحسين ميزان المدفوعات. وهذا غير صحيح، لأنّ هناك انكماشاً في الطلب، وقد نعاني منه في السنوات المطلة".

أرقام الموازنة كارثية على المواطنين

الانفاق على الشؤون الاجتماعية في موازنة 2024 انخفض بشكل كبير، فتراجع الانفاق على التربية والتعليم من 9 في المئة إلى 3.4 في المئة، وتمّت زيادة اعتمادات وزارة الصحّة كنتيجة حتمية لارتفاع أسعار الأدوية. والتعديلات على الشطور الضريبية للرواتب والأجور ورفع التنزيلات الفردية والعائلية 60 ضعفاً لم تأخذ في الاعتبار إمكانية انهيار سعر الصّرف مجدداً وارتفاع التضخّم.

"تبلغ نسبة الضرائب غير المباشرة على الاستهلاك في موازنة 2024 حوالى 80 في المئة من مجمل الضرائب. ومع هذا، تحظى بتوافق كلّ مكوّنات السلطة عليها"، برأي صالح، وستُقرّ لأنّها تتناسب ومصالح الطبقة الحاكمة.

أبرز التعديلات الإيجابية من وجهة نظر قطاع الأعمال

من الجهة الأخرى، يرى نديم ضاهر الخبير المحاسبي و"عضو المكتب التنفيذي في الجمعية اللبنانية لحماية المكلّفين"، أنّ "التعديلات التي أقرّتها لجنة المال على الموازنة تتفق مع الملاحظات التي تقدّمت بها الجمعيّات المدنية وممثّلون عن القطاع الخاص. وهذا أدّى إلى ردم العديد من الثُغر التي كان يتضمّنها مشروع الموازنة الأساسي المرسل من الحكومة، والذي يحمل ضرراً على الاقتصاد، والقطاعات الشرعية. ولعلّ أهمّ التعديلات التي أُدخلت على المشروع، هي:

إلغاء كلّ الضرائب المستحدثة بفرسان الموازنة

تعديل الشطور الضريبية والزيادات بالرسوم لتوحيد نسبة المضاعفة لتوازي نسبة التضخّم للرسوم ونسبة تدهور سعر صرف للشطور.

إعادة تقييم الشطور الثابتة والمخزون على سعر الصّرف الحالي، كما حسابات الذمم من دون فرض ضريبة على فروقات الصرف الناتجة فقط عن تدهور سعر صرف الليرة.

معالجة موضوع تعويض نهاية الخدمة بعد احتساب الرواتب المدفوعة بالعملة الأجنبية على سعر السوق الفعلي.

عودة المالية العامة إلى الانتظام

وبرأي ضاهر "من شأن إقرار هذه الموازنة مع تعديلاتها إعادة انتظام المالية العامّة وتأمين المداخيل اللازمة لدفع رواتب موظّفي القطاع العام وأجورهم. إذ أزالت الصيغة المعدّلة العديد من الضرائب المستحدثة وتمّ إصلاح طريقة احتساب الموازنة التي بنيت على أساس سعر الصرف الفعلي المعمول به، اليوم، والذي هو حوالى 90 ألف ليرة". وعُدّلت الشطور على ضرائب الدخل والأرباح من المهن الحرّة، وتمّ أخذ القيمة الحقيقية لتراجع سعر الصّرف في احتساب التنزيلات العائلية إذ تضاعفت 60 مرّة. فمثلاً جرى توسعة الشطر الأعلى للدخل الذي تفرض عليه ضريبة بنسبة 25 في المئة من 225 مليون ليرة (يوازي الرقم سابقاً 150 ألف دولار) إلى 13.5 مليار ليرة، توازي أيضاً 150 ألف دولار على سعر صرف السوق. كما جرى رفع قيمة التنزيل الفردي من 5 ملايين ليرة إلى 450 مليوناً. كذلك سمحت التعديلات التي أدخلت على الموازنة "بإعادة تخمين الأصول الثابتة للمؤسسات والمخزون وحسابات الذمم الدائنة والمدينة على سعر الصرف الحالي"، بحسب ضاهر. "واتاحت المادة 57 بإعادة إجراء تقييم استثنائي للمخزون والأصول الثابتة للمكلّفين بضريبة الدخل وإجراء معالجة استثنائية لفروقات الصرف الإيجابية والسلبية، وهي من أهم نقاط تضمّنتها التعديلات".

الرسوم تضاعفت 46 مرّة

أمّا الرسوم فقد تضاعفت 46 مرّة، أي بنفس نسبة التضخّم المسجلة من أول الأزمة لليوم، والتي بلغت نسبتها 460 في المئة. وتمّ تعديل نسبة الضريبة على غير المقيمين من 7.5 في المئة إلى 8.5 في المئة.

الخلاف على الموازنة، بين من يرى أنّ وجودها أفضل من عدمه، وبين من "ينسفها عن بكرة أبيها"، يُقابل باتفاق الجميع على أنّ المشوار الإصلاحي ما زال طويلاً، وأنّ الموازنة "ستحطّم" قدرة المستهلكين الشرائية. وكان يجب أن تكون مسبوقة بقطع حساب عن السنوات الماضية، وبإعادة هيكلة القطاع العام وتحرير سعر الصرف وتوزيع المسؤوليات لكي يبنى على الشيء مقتضاه. وهذا ما لم يحصل، ومن المتوقّع أن لا يحصل في القريب العاجل.