يسير عام 2023 في أيامه الأخيرة حاملًا معه إرثًا ثقيلًا من أحداث حصلت خلال العام، من انهيار سعر صرف الليرة من 42500 ليرة للدولار الواحد في أول يوم من العام 2023 إلى ما يُقارب الـ 90 ألف في أيّامه الأخيرة، وصولًا إلى شلل مؤسسات الدولة ومرورًا بمشروع موازنة لم يُقرّ، لا بل على العكس رفضت لجنة المال والموازنة دراسته مُعلّلة ذلك بالعديد من الأسباب ولعل أهمّها تخطّي المهل الدستورية.

وقد يتساءل القارىء عن سبب إثارة موضوع مشروع موازنة العام 2023 في حين أننّا في نهاية العام، وأنّ الأعوام 2006 حتى 2016، لم تشهد إقراراً للموازنات، بل تمّ الصرف على أساس القاعدة الإثني عشرية بالإضافة إلى اعتمادات من خارج الموازنة، فما الذي تغيّر؟ الجواب بكل بساطة هو في العجز الذي يحمله مشروع موازنة 2023.

مصرف لبنان على لسان حاكمه بالإنابة وسيم منصوري رفض ويرفض بشكلٍ قاطع تمويل الدولة

وفي التفاصيل، شهدت الأعوام 2006 إلى 2016 غياب كامل لقوانين الموازنات واكتفت الحكومات السّابقة بالصّرف على أساس القاعدة الإثني عشري،ة بالإضافة إلى اعتمادات من خارج الموازنة. كلّ هذه الموازنات كانت تحمل عجزًا كان يتمّ تمويله من خلال الإستدانة سواء من سندات اليوروبوندز (سندات بالدولار الأميركي) أو من تمويل من قبل المصرف المركزي والمصارف (سندات بالليرة اللبنانية بالإضافة إلى تسهيلات). وهو ما جعل الدين العام يقفز من 38.5 مليار دولار أميركي في أوائل العام 2006 إلى أكثر من 72 مليار دولار أميركي في العام 2016.

المشكلة مع مشروع موازنة العام 2023 أنّها تحوي على عجز بقيمة 43 تريليون ليرة لبنانية (تريليون = ألف مليار) بدون تمويل! فإعلان الدولة وقف دفع دينها بالدولار الأميركي وبالليرة اللبنانية يجعل الإستدانة مُستحيلة، ومصرف لبنان على لسان حاكمه بالإنابة وسيم منصوري رفض ويرفض بشكلٍ قاطع تمويل الدولة سواء بالدولار الأميركي أو بالليرة اللبنانية. فمن أين ستُموّل الحكومة اللبنانية عجز موازنة العام 2023؟

أظهر مشروع موازنة العام 2024 أنّ الدولة رفعت الضرائب والرسوم بشكلٍ غير منطقي (نظرًا للأزمة الإقتصادية) وذلك بهدف تمويل العجز فيها والبالغ أيضًا حدود الـ 40 إلى 50 تريليون (الرقم غير معروف بدقة نظرًا إلى المساعدات الإجتماعية!). واستفحل السلوك الحكومي في رفع الضرائب والرسوم يمينًا وشمالًا آملًا بتحقيق مداخيل لم تعد تستطيع الحكومة تأمينها من خلال الإستدانة. وعلى الرغم من أنّ جزءًا بسيطًا من هذه الزيادات يطال العام 2023، إلّا أنّه غير كافٍ لسدّ العجز في موازنة العام 2023. إذًا كيف ستموّل الحكومة هذا العجز في موازنة 2023؟

هناك ثلاث سيناريوهات مطروحة:

السيناريو الأول – وينصّ على ترحيل العجز من موازنة العام 2023 إلى موازنة العام 2024 بالتحديد، كما فعل مصرف لبنان مع الخسائر التي كان يُرحّلها من عام إلى آخر بهدف تغطيتها بمداخيل مُستقبلية كانت بانتظاره. وهذا الأمر، إن تحقّق، يعني أنّ مشروع موازنة العام 2023 لم يحترم الأسس الدستورية التي تنصّ على توازن النفقات والمداخيل. كما أنّ مشروع موازنة العام 2024 هو أيضًا مُخالف للدستور لأنّه لا يأتي على ذكر الترحيل من موازنة العام 2023 إلى العام 2024.

السيناريو الثاني – وينصّ على أن يقوم المجلس النيابي بإقرار قانون يفرض على مصرف لبنان تمويل العجز ويسمح للحكومة بالإقتراض من المركزي لتغطية هذا العجز. إلّا أنّ هذا السيناريو يبقى أمامه عقبات كثيرة ولعلّ أهمّها امتناع النواب وخوفهم من جمهورهم إذا ما صوّتوا على قانون يسمح للمصرف المركزي بالمسّ بأموال المودعين بحكم أنّ المصرف المركزي سيموّل العجز من الإحتياطي الإلزامي لديه.

السيناريو الثالث – وينصّ على أن الحكومة قدّ أمّنت تمويل العجز وقامت بشراء الدولارات من السوق السوداء من خلال المصرف المركزي. وما الإرتفاع الأخير في الإحتياطي من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي والبالغ حدود النصف مليار دولار أميركي (أي ما يوازي عجز الموازنة) إلّا عبارة عن المبلغ بالدولار الذي تمّ شراءه لهذه الغاية. ولكن السؤال الجوّهري يبقى التالي: من أين أتى المصرف المركزي بالليرات لشراء الدولارات من السوق؟

على كلّ الأحوال، هناك مُشكلة تطال الشفافية في التعاطي مع الرأي العام ومع المُكلّفين (دافعي الضرائب). لماذا لا تقوم الحكومة أو وزارة المال بالإفصاح عمّا يحصل؟ بالطبع الجواب موجود عند المعنيين.

على صعيد أخر، يُطرح السؤال عن مصير سعر الصرف في ظلّ التأجيل المتواصل من قبل الحكومة للقيام بإصلاحات؟ إذ من المعروف أنّه وبحسب المعلومات الصحافية، سيتمّ إطلاق منصّة بلومبرغ في الربع الأول من العام 2024. وبالتالي سيتمّ تحرير سعر صرف الليرة مُقابل الدولار الأميركي على هذه المنصة. فكيف يُمكن تحرير سعر الصّرف في ظلّ فقدان الحكومة القدرة حتّى على تغطية نفقاتها؟

الجواب يأتي مصرف لبنان ومن الحكومة. فمصرف لبنان ومنذ أواخر ولاية الحاكم السابق، عمد إلى امتصاص الليرة اللبنانية من السوق عبر التعميم 161، واستكملته الحكومة، بعد إلغاء التعميم من قبل الحاكم بالإنابة، بفرض دفع الفواتير والرسوم والضرائب بالليرة اللبنانية وبالكاش. وأضافت عنصرًا إضافيًا عبر السماح بدولرة الإقتصاد. وهو ما يعني أنّ الليرة اللبنانية لم تعد عملة تخدم الإقتصاد، بل أصبحت عملة "تعداد" وعملة "فكّة" لا أكثر ولا أقلّ! بمعنى آخر تحوّلت الليرة اللبنانية من عملة تخدم الإقتصاد إلى سلعة أصبح يُحدّد سعرها الحجم المُتداول بها. وبالتالي من هنا تأتي إلزامية دفع الضرائب والرسوم والفواتير بالليرة اللبنانية وبالكاش. كلّ هذا سيسمح للمصرف المركزي والحكومة بالسيطرة على سعر الصّرف حتّى ولو تمّ تحرير الليرة على منصّة بلومبرغ.

لكن ما الفائدة من تحرير الليرة اللبنانية إذا لم تعد تخدم الإقتصاد الذي أصبح مُدولرًا؟ يعتقد المسؤولون أن استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية مُقابل الدولار الأميركي سيسمح لاحقًا باستعادة الثقة بها ويدفع المستثمرين والمستهلكين إلى الاستثمار والإدخار بالليرة اللبنانية كما والعودة عن الدولرة. إلّا أنّ هذا الأمر غير قابل للتحقيق إلّا في حال قامت الحكومة ومن خلفها المجلس النيابي بإقرار الإصلاحات الإقتصادية اللازمة خصوصًا أنّ علم الإقتصاد واضح على هذا الصعيد: "العملة تعكس ثروة البلد". وبالتالي تحرير سعر الصّرف أو عدم تحريره لم يعد يؤثّر إلّا على شريحة من المواطنين مدخولها بالليرة اللبنانية.