من قلب سويسرا، اختتم المنتدى الاقتصادي العالمي 2024، دافوس، ، نسخته الـ54. المؤتمر الذي حمل شعار "استعادة الثقة" جمع أكثر من مئة حكومة، ومنظمة دولية كبرى، وألف شركة شريكة للمنتدى، فضلًا عن قادة المجتمع المدني والخبراء والناشطين الشباب ورجال الأعمال ووسائل الإعلام. وعلى أجندته وُضعت قضايا أساسية مهمّة، طابع بعضها سياسي وعسكري، وطابع بعضها الآخر اقتصادي وتكنولوجي وبيئي. 
وتناول المنتدى الذي توزّع على مواضيع الأمن العالمي، وخلق فرص العمل، والمبادرات المناخية، وتطوير الذكاء الاصطناعي، وسعي القادة إلى اتخاذ قرارات مؤثّرة وموحدة وسط تحديات عالمية متعدّدة الأوجه، بما في ذلك الصراعات الجيوسياسية، وتغيّر المناخ. وانصبّ التركيز هذا العام على تجاوز المشكلات لإيجاد الحلو  بشفافية واتساق ومساءلة. 
من أبرز الشخصيات السياسية ورؤساء الدول الذين حضروا المؤتمر: الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، رئيس الوزراء القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، رئيس وزراء جمهورية الصين الشعبية لي تشيانغ، وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود وأورسولا فون دير لاين من المفوضية الأوروبية... 
عن المنتدى الاقتصادي العالمي 
يقول الخبير الاقتصادي أنطوان فرح لـ"الصفا نيوز" إنّ أهمّية منتدى دافوس تكمن في أنّه تحوّل إلى منتدى عالمي، أي أنّ قسمًا كبيرًا من قادة دول العالم يشارك في هذا المنتدى، وأن غالبية وسائل الاعلام في العالم تركّز في فترة انعقاد دافوس على هذا المنتدى، وعليه أصبح دافوس منصّة تسمح للمشاركين فيها بإيصال صوتهم لأكبر قدر ممكن من الناس في أنحاء العالم". 
أمّا الأهمية الثانية لدافوس، بحسب فرح، فهي "على الرغم من أنّ طابعه الأساسي اقتصادي، فقد تحوّل إلى منتدى سياسي أيضًا، على اعتبار أنّ الحكومات تشارك عبر رؤسائها وقياداتها في المنتدى. وبذلك أصبح دافوس منصّة لهذه الأطراف لعقد محادثات وحوارات واتفاقات. 
وأضاف فرح "ودافوس يعتبر ملتقى لأهمّ الشركات العالمية التي تحرص بمعظمها على المشاركة في هذا اللقاء وتعرض خدماتها ومنتجاتها والفرص الاستثمارية للمشاركة معها. وبذلك يكون دافوس أيضًا منصّة لعقد الشراكات وجذب وتبادل الاستثمارات، في حين لا نجد لقاءات كثيرة في العالم كلقاء دافوس الذي أصبح فريدًا من نوعه، وملتقى سنوي لقيادات العالم والشركات العالمية". 


الأهمية الاقتصادية للمؤتمر 
لا شكّ في أنّ المؤتمر يكتسب أهمّية اقتصادية ضخمة لما يوفّر من فرص استثمارية وتجارية بين الدول. 
فهو فرصة للشركات الوطنية والقطاع الخاص لترسيخ وبناء شراكات دولية في جميع المجالات. ويعدّ هذا المنتدى فرصة للدمج بين المواهب والتقنية لتقديم التنظيمات المحفزة على الابتكار، إذ يوضح أهمية اجتماع المفكرين والفاعلين كالحكومات ورجال الأعمال والمؤسسات غير الحكومية لدعم هذا التفكير التنظيمي. 
إلّا أنّ المنتدى، هذا العام، كان "الأكثر تعقيدًا منذ عقود في ظلّ السياق الجيوسياسي والاقتصادي" وفق رئيس المنتدى بورغه برنده. 

إعادة بناء الثقة والتعاون 
وشدّد دافوس 2024 على الحاجة الملحّة إلى إعادة بناء الثقة وسط تزايد الانقسامات الجيوسياسية. وسلّط قادة من مختلف القطاعات، بما في ذلك الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريس ورئيس مجلس الدولة الصيني لي تشيانج، الضوء على أهمية التخلّص من التحيّز. وناقشوا وقف الخلافات والعمل الجماعي لمواجهة التحديات العالمية. علاوة على ذلك، أكد أجاي س. بانجا، رئيس مجموعة البنك الدولي، على الترابط بين الأزمات، بما في ذلك الفقر وتغيّر المناخ والرعاية الصحية. كذلك تناولت سلسلة من المناقشات الصراع في الشرق الأوسط. 

ومن أبرز المبادرات المتعلقّة بالثقة والتعاون والأمن التي احتلّت مركز الصدارة في دافوس: 
مقياس التعاون العالمي: كان التعاون العالمي مرنًا طوال معظم العقد الماضي. ويتجلّى هذا بشكل متزايد في مجالات التجارة ورأس المال، والابتكار والتكنولوجيا، والمناخ والتمويل الأخضر. ومع ذلك، فقد تأثّر التعاون العالمي سلبًا بسبب تراجع التعاون في مجال السلام والأمن. 
أعلنت مبادرة الاستثمار في الشؤون الإنسانية والقدرة على الصمود عن أكثر من 50 التزامًا يمكن أن تعزّز الاستثمار المؤثر وتساعد في إطلاق نحو 15 مليار دولار. 


النمو الاقتصادي والتجارة 
وشددت المناقشات في دافوس 2024 أيضًا على الحاجة إلى نموذج نمو جديد يوازن بين المحرّكات الاقتصادية والابتكار والشمول والاستدامة والمرونة. ودعا العديد من زعماء العالم، بما في ذلك رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، والمديرة العامة لمنظمة التجارة العالمية نجوزي أوكونجو إيويالا، إلى إعادة تقييم العولمة والسياسات التي تسعى إلى تحسين حياة الناس. 
ومن أبرز المبادرات المتعلّقة بالنمو الاقتصادي والتجارة: 
مبادرة مستقبل النمو: حملة لمدة عامين بقصد تبادل الأفكار حول تحقيق النمو المتوازن. 
قدمت شركة TradeTech Global رؤية لاستخدام التكنولوجيا التعاونية في التجارة العالمية. 
وكوِّن تحالف وزراء التجارة المعني بالمناخ وتحالف الاستثمار الأجنبي المباشر في مجال المناخ لتعزيز النمو المستدام. 


لا نتائج ملموسة على المدى القريب 
في سياق متصل، شرح الخبير الاقتصادي، الدكتور خلدون عبد الصمد لـ"الصفا نيوز" أنّ "نسخة هذا العام من مؤتمر دافوس مهمّة جدًا لأسباب عدةً أوّلها أنّ الحروب التي تحصل في العالم من أوكرانيا وغزة واليمن والأوضاع الأمنية المقلقة في الشرق الأوسط. والحرب في أوكرانيا كانت السبب الرئيسي لزعزعة الثقة بين محاور الاقتصاد في العالم، أي بين أميركا والتجمّع الأوروبي الذي يدعمها والصين والتجمّع الأوروبي الذي يدعمها وروسيا القوة الاقتصادية العظمى، فضلًا عن ظهور تكتّلات اقتصادية صغيرة كالهند والبرازيل. هذا التشنج الحاصل أدّى إلى أن يكون مؤتمر دافوس ذا أهمية كبرى. وهو يعمل اليوم على إعادة الثقة بين المجتمعات بشكل عام". 
وجاء المؤتمر بعد أزمة كورونا، وأزمة الـ2008، يقول خلدون "في محاولة لإعادة وضع الاقتصاد العالمي على سكّة النمو، وهنا تكمن الأهمية الاقتصادية لهذا المؤتمر في ظلّ مشاركة أكثر من 60 دولة من الدول النامية والمتقدمة. كما ناقش المؤتمر الانهيارات الاقتصادية الحاصلة في أفريقيا والدول النامية والتي تنعكس أيضًا على الاقتصاد العالمي. كذلك هناك تخوّف كبير من تنامي الصراع الولايات المتحدة الأميركية والصين، وهذا التجاذب الحاصل بين الدولتين الاقتصاديتين يخيف الشركات التي تخشى أن يشملها الفيتو والعقوبات. فضلًا عن السيطرة الروسية على الغاز في أوروبا، والحاجة إلى امدادات الطاقة في العالم". 
وبحسب خلدون "لن يكون لنتائج مؤتمر دافوس النجاح الملموس على المدى القريب، إلاّ أنّ نتائجه ستبدأ بالظهور على دفعات". 


المحور الاقتصادي  
أمّا المحور الاقتصادي لهذا العام فعنوانه "خلق النمو وفرص العمل لعصر جديد"، وناقش المؤتمر دراسة "كيف يمكن الحكومة وقطاع الأعمال والمجتمع المدني أن تجتمع في إطار اقتصادي جديد لتجنّب عقد من النمو المنخفض ووضع الأشخاص في قلب مسار أكثر ازدهارًا". 
يأتي ذلك بعد عام 2023 الذي كان حافلًا بالأزمات الاقتصادية، وعلى رأسها أزمة التضخّم العالمية، التي سعت المصارف المركزية في العالم إلى لجمها عبر رفع أسعار الفائدة. وما زاد الوضع الاقتصادي سوءًا تأثير التغيير المناخي على سلاسل الإمداد العالمية وضرب الوضع الأمني في الشرق الأوسط لحركة التجارة البحرية، وهذا ما أدّى إلى رفع أسعار السلع وإفشال محاولات الدول السيطرة على التضخّم.  


الذكاء الاصطناعي 
في عداد أهدافه لـ2024، يطرّق دافوس 2024 إلى مناقشة "الذكاء الاصطناعي كقوّة دافعة للاقتصاد والمجتمع".  
وطرح المنتدى الاقتصادي العالمي التساؤلات الآتية "كيف يمكننا استخدام الذكاء الاصطناعي لتحقيق الفائدة للجميع؟ وكيف يمكن موازنة المشهد التنظيمي المتباين بين الابتكار والمخاطر المجتمعية؟ وكيف سيتفاعل الذكاء الاصطناعي مع التقنيات التحويلية الأخرى، بما في ذلك 5/6G والحوسبة الكمومية والتكنولوجيا الحيوية؟". 
وجاء ذلك بعدما رفع عدد من الشركات ودول العالم الصوت عاليًا بشأن مخاطر الذكاء الاصطناعي على البشر، وهو ما استوجب عقد قمة الذكاء الاصطناعي في بلتشلي بارك في المملكة المتحدة البريطانية، بمشاركة 28 دولة. وأصدرت القمة أول إعلان عالمي لضوابط الذكاء الاصطناعي لضبط الخطر الكارثي للذكاء الاصطناعي باسم إعلان بلتشلي. والخطر الكارثي يكمن في 4 جوانب هي الاستخدام الضار، وسباقات تسلّح الذكاء الاصطناعي، والمخاطر التنظيمية، وأنظمة الذكاء الاصطناعي المارقة. 
واستكشفت حوالى 30 جلسة التأثير البعيد المدى للذكاء الاصطناعي، وضمّت شخصيات رئيسة، مثل: مؤسس شركة "أوبن إيه آي" سام ألتمان والمدير التنفيذي لشركة مايكروسوفت، وناقش الحضور مسألة المعلومات الخاطئة المولدة بالذكاء الاصطناعي كونها تهديدًا عالميًا ملحًا. 
وشهدت قاعات دافوس نقاشًا حول المخاوف المحيطة بالمعلومات المضلّلة، وتأثيرها المحتمل في الديمقراطيات حلّ في مركز الصدارة، وفقًا لتوصيف الموقع الرسمي للمنتدى. 


قصايا المناخ والمساواة البشرية
ولقضايا المناخ أيضًا حصتها التي جاءت في عداد أولويات دافوس 2024. واستكمالًا للجهود الدولية المبذولة والنتائج التي توصّل إليها مؤتمر المناخ في دبي "كوب 28"، تمّت مناقشة "إستراتيجية طويلة المدى للمناخ والطبيعة والطاقة". 
وإدراكًا للدور الحاسم للاستثمار في البشر، غطّت المحادثات في دافوس 2024 أيضًا مشاريع تتعلق لالوظائف والمهارات، والشمول الرقمي، والرعاية الصحية. وأكّد قادة عالميون مشهورون، منهم كريستي هوفمان، الأمين العام للاتحاد العالمي UNI، على أهمية إشراك العمّال في مناقشات نشر الذكاء الاصطناعي. 


أكيدًا أنّ دافوس 2024 كان منصّة بالغة الأهمّية لزعماء العالم لمعالجة التحدّيات الملحّة، وتعزيز التعاون، وإطلاق المبادرات. وسعى الاجتماع السنوي إلى خلق مستقبل أكثر استدامة وشمولًا وإنصافًا. وشملت المناقشات والمبادرات موضوعات متنوّعة، من إعادة بناء الثقة والنمو الاقتصادي إلى العمل المناخي. علاوة على ذلك، ناقش القادة حوكمة الذكاء الاصطناعي والتنمية البشرية. وبينما يواجه العالم قضايا معقّدة، أتاح الاجتماع مساحة للحلول التعاونية والشراكات لتشكيل مسار إيجابي للتقدّم العالمي. فهل يكون دافوس 2024 انطلاقة لعام تتمكن فيه الدول من السيطرة على الأزمات الاقتصادية وحلّ أزمة التضخّم وضبط الصراعات الجيوسياسية حول العالم أم أنّنا ذاهبون إلى عام جديد يضيف أزمات إلى الأزمات السابقة؟