سواء عاد الموفد الرئاسي الأميركي عاموس هوكشتاين مجدداً إلى لبنان أم لم يعد فإنّ الانظار مشدودة الى الجبهة الجنوبية، حيث انتقل اهتمام المعنيين بها على الجانب اللبناني منذ الأسبوع الماضي من مرتبة أنّها حرب استنزاف لتخفيف الضغط الإسرائيلي على غزة إلى مرتبة تحوّلها حرباً مفتوحة تلوّح بها إسرائيل وتتوعّد وتهدّد.

ولكن رغم التهديد الإسرائيلي بشنّ الحرب على لبنان، فإنّ هناك اقتناعاً لدى بعض الأوساط المعنية أنّ إسرائيل لا يمكنها الإقدام على خطوة من هذا النوع من دون موافقة أميركية، وأنّ واشنطن حتّى الآن لا تؤيّد ذلك، بل إنّ الخلاف الدائر بينها وبين تل ابيب يتسع، وكذلك الخلاف العاصف داخل حكومة الحرب الإسرائيلية، والأزمة  المتفاقمة حول موضوع الأسرى الإسرائيليين لدى حركة "حماس" وإصرار عائلاتهم على وجوب استعادتهم بأيّ صفقة كانت، في الوقت الذي تفشل إسرائيل في تحقيق أهدافها من الحرب التدميرية على غزّة ومنها استعادة هؤلاء الأسرى.

وقد لخّص مسؤول العلاقات الإعلامية في حزب الله محمد عفيف قبل أيام، خلال لقاء إعلامي، الوضع في الجنوب في ضوء ما حمله الموفدون الدوليون من رسائل تحذير وتهديد للبنان، بالقول: "يوجد ما يكفي من الأسباب للذهاب إلى الحرب، وأيضاً يوجد ما يكفي من الأسباب لعدم الذهاب إلى الحرب، والأرجح حالياً هو عدم الذهاب إلى الحرب، ولكن لا يوجد أيّ رابط حتّى الآن بين ما يحصل في غزّة وفي جبهة الجنوب وبين موضوع رئاسة الجمهورية."

وكان عفيف يردّ بهذا الكلام على قول بعض قادة فريق المعارضة اللبنانية إن حزب الله وحلفاءه يعملون على إجراء مقايضة أو ربط بين الوضع في غزّة والاستحقاق الرئاسي اللبناني، خصوصاً بعدما أعلن البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، في إحدى عظاته، قبل أسبوعين، رفضه هذا الربط إذا كان موجوداً، ليقول في عظته أمس معلقاً على "تشريع الضرورة" في مجلس النواب و"قرارات الضرورة" في مجلس الوزراء أن ليس هناك من ضرورة إلّا انتخاب رئيس للجمهورية.

وأكثر من ذلك، كشف عفيف جانباً ممّا حمله الموفدون الدوليون، فأشار تحديداً إلى ما نقله هوكشتاين وكان ما معناه أنّ هناك "فرصة أسابيع قد نستطيع فيها أن نؤخّر الحرب على لبنان، ولكننا لا نستطيع أن نمنع الحرب على لبنان". ولكن الجواب الذي تلقّاه الموفد الأميركي، حسب أوساط بعض الذين التقاهم، هو أنّ الكرة هي في الملعب الإسرائيلي إذ على إسرائيل أن توقف الحرب على غزّة فيتوقّف كلّ ما يجري على حدود لبنان الجنوبية، ويمكن عندئذ البحث في تطبيق القرار 1701 بعد أن ينتخب رئيس الجمهورية اللبنانية، كونه صاحب الصّلاحية الدستورية في التفاوض والتعاطي مع المعاهدات والاتفاقات الدولية.

المجموعة الخماسية كانت تربط أو تضبط ولا تزال الاستحقاقات اللبنانية على توقيت حرب غزّة والمواجهات الدائرة على الجبهة الجنوبية

وسط هذه التطوّرات، وبعد أيّام على مغادرة هوكشتاين قرّرت المجموعة الخماسية العربية الدولية المهتمّة بلبنان (الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا والمملكة العربية السعودية ومصر وقطر) التحرّك وذلك على مستوى سفرائها في بيروت، في ظل توقّعات بزيارة موفدها الفرنسي جان ايف لودريان للبنان قريباً، وربّما نهاية الشهر الجاري، على أن يتوّج هذا التحرّك باجتماع لهذه المجموعة قد يكون في الرياض أو القاهرة وغيرهما من عواصم دولها.  

ولقد بات من الواضح لدى المعنيين من مسؤولين وقوى سياسية لبنانية في ضوء اللقاءات المتكرّرة مع موفدي المجموعة، وخصوصاً في الزيارات الأخيرة من الشهر الفائت إلى الشهر الحالي، أنّ المجموعة الخماسية كانت تربط أو تضبط ولا تزال الاستحقاقات اللبنانية على توقيت حرب غزّة والمواجهات الدائرة على الجبهة الجنوبية، رغم الانطباع الذي كان تكوّن إثر عملية "طوفان الأقصى" من أنّ هذه الاستحقاقات قد وضعت جانباً إلى أجل غير معلوم.  

ومن المقرّر أن يجول سفراء "الخماسية" على المسؤولين وبعض القيادات المعنية مباشرة أو مداورة بالاستحقاق الرئاسي، ويتصدّر هؤلاء جميعاً رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي سيستقبلهم غداً، في حين دلّت المؤشرات من خلال حركة السفير السعودي وليد البخاري الراهنة إلى أنّ المجموعة الخماسية باتت تستعجل إنجاز انتخاب رئيس للبنان نتيجة تصاعد وتيرة المواجهات الجارية على الحدود الجنوبية، وتهديد إسرائيل بتوسعة رقعة الحرب بحجّة تأمين عودة نازحيها إلى المستوطنات الشمالية، الذين اضطرّت إلى إخلائهم منها منذ 8 تشرين الأول  الماضي غداة عملية "الطوفان الأقصى" في غزة وغلافها، حيث أنّ اسرائيل تعلن أنّ هؤلاء يرفضون العودة إلى مستوطناتهم إذا لم يتمّ سحب مقاتلي حزب الله من منطقة جنوب نهر الليطاني إلى شماله، في إطار تنفيذ القرار  الدولي 1701  الصادر عام 2006.

 والواقع أنّ حراك المجموعة الخماسية، التي حصل تشاور على مستوى بعض المسؤولين في دولها غداة زيارة هوكشتاين الأخيرة للبنان، خالف كلّ المعلومات التي شاعت أخيراً عن أنّ الاستحقاق الرئاسي وُضع على لائحة الانتظار لديها إلى أن تضع حرب غزة أوزارها ومعها هدوء الوضع على الجبهة الجنوبية اللبنانية. وفي هذا السياق يؤكّد البعض أنّه لا يمكن فصل حراك اللجنة الخماسية المتجدّد عن نتائج محادثات هوكشتاين الأخيرة، ولا سيما منها نتائج الخلوتين اللتين عقدهما مع كلّ من رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، واللتين أحيطتا بكتمان شديد إلى درجة لم يعرف بعدهما الوجهة التي قصدها هوكشتاين لدى مغادرته لبنان، خصوصاً أنّه حمل موقفاً لبنانياً يركّز على أولوية انتخاب رئيس جمهورية وتكوين سلطة لبنانية جديدة واجبة الوجود لتحقيق أيّ معالجة للوضع على الجبهة الجنوبية، وأنّ هذا الموقف اللبناني ليس بعقدة، بل لا يستدعي  كلّ هذا التهديد الإسرائيلي، فهو يطلب وقف الحرب على غزّة لأنّ ما يقوم حزب الله جنوباً غايته الضغط على إسرائيل لوقف هذه الحرب، وقد أعلن ذلك منذ 8 تشرين الأول الماضي ولا يزال.

 ومع حراك سفراء المجموعة الخماسية المقرّر غداً رشح من أوساط "كبار القوم" الذين التقوا هوكشتاين والسفيرة الأميركية الجديدة ليزا جونسون  أنّهم سمعوا تشجيعاً أميركياً على الإسراع في انتخاب رئيس للجمهورية، بل إنّ الجانب الأميركي أيّد موقفهم الذي يشدّد على أولوية إنجاز هذا الاستحقاق حتّى يتمّ إنجاز الاستحقاقات الأخرى، ولا سيّما  منها استحقاق تثبيت الحدود الجنوبية اللبنانية المرسّمة في الخرائط البريطانية والفرنسية منذ 1923 و1926 من القرن الماضي بعد إعلان الجنرال الفرنسي الانتدابي هنري غورو "دولة لبنان الكبير" عام 1920 وتنفيذ متطلّبات القرار الدولي 1701 لعام 2006، خصوصاً أنّ إسرائيل لم تلتزمه يوماً منذ صدوره بل إنّها تخرقه يومياً في البرّ والبحر والجو باعتداءات متمادية للسيادة اللبنانية.

 وفيما بدأ البعض يروّج لاحتمال انضمام هوكشتاين إلى ممثّلي دول المجموعة الخماسية، رغم أنّ مهمّته الأساسية "حدودية"، بمعنى أنّه وسيط لإنهاء النزاع الحدودي البري بين لبنان وإسرائيل، بعدما رعى الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية، فإنّ الرجل تجاوز فعلاً "مهمّته الحدودية" إذ جاز التعبير، بدافع المسؤولين اللبنانيين الذين يعتبرون أنّ الترسيم البحري رتّب على الولايات المتحدة مسؤولية، بل "واجب" مساعدة لبنان على تكوين سلطته الجديدة، ليس بالتدخّل المباشر وإنما من خلال العمل على  تدوير زوايا المواقف الحادّة لبعض العواصم الإقليمية وبعض الفرقاء السياسيين اللبنانيين، الذين يتماهون مع واشنطن أو يعتبرون أنفسهم حلفاء لها في لبنان والمنطقة.

في أيّ حال، فإنّ الأيام المقبلة ستكون حافلة بالتطوّرات الداخلية في ضوء حراك سفراء المجموعة الخماسية، وكذلك في ضوء المشهد الداخلي اللبناني الذي كان اللافت فيه تطوّر العلاقة بين الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط ونجله رئيس الحزب النائب تيمور وبين رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، إذ بعد اللقاءات التي حصلت بين الجانبين كان لقاء لافت بين جنبلاط وبرّي في ظلّ استمرار الثنائي الشيعي في دعم ترشيح فرنجية، ورفض البحث في ما يسمّيه البعض "الخيار الثالث". 

في المختصر، يقول معنيون، أن الحراك الخماسي ينطلق مجدداً على هدي مهمة هوكشتاين، والمعطيات التي نجمت من زيارته الأخيرة للبنان، والتي أسمع خلالها من التقاهم التشجيع الأميركي على انتخاب رئيس والمساهمة في تذليل العقبات التي تمنعه. في حين أن فريقاً من السياسيين يرى أنّ مهمّة هوكشتاين يمكن أن تتراجع مع اقتراب الإدارة الأميركية من الدخول في مدار الانتخابات الرئاسية، في الوقت الذي يصرّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على الاستمرار في الحرب متحدثاً عن موعد 7 تشرين الأول 2024.