عند كلّ منعطف سياسي أو أمني خطير يحرّك وليد جنبلاط محرّكاته ساعياً إلى تقارب يخفّف التوتّر ويفتح الباب على اقتراحات حلول أو يدفع باتجاه حوار، لا يزال الزعيم الدرزي يؤمن به ويعتبره كما حليفه الأبدي نبيه بري ملاذاً وحيداً من أزمتنا وحلّاً تمهيدياً لمشكلاتنا العالقة.
قبل نهاية العام الماضي زار رئيس الحزب "الإشتراكي" تيمور جنبلاط بنشعي للقاء المرشّح الرئاسي سليمان فرنجية. بعدها مباشرة ردّ فرنجية الزيارة ملبّياً دعوة جنبلاط الأب إلى عشاء"عائلي" نسبة إلى توصيف الطرفين، وهو توصيف له دلالاته هنا. ابْنا سلالة "البكوية" ينتميان إلى الحقبة السياسية ذاتها ويجمعهما صديق مشترك هو نبيه بري. بعد القطيعة أو الجليد الذي اتسمت به علاقة "البيكيْن" ارتأى الرجلان التقارب مجدّداً وعودة العلاقة التاريخية بين "المردة" و"الاشتراكي" إلى مجاريها. يرغب المرشّح الرئاسي في إكمال جولاته الانفتاحية واستمزاج الآراء بشأن ترشيحه. كما يرغب جنبلاط في أن يوصل رسالته إلى المعني مباشرة كي لا يكون أيّ موقف يتخذه متعلّقاً بترشيح فرنجية حمّال أوجه وخاضعاً لتفسيرات.
بعد فرنجية زار رئيس الإشتراكي رئيس الحزب الديمقراطي طلال أرسلان، عقب زيارات إلى عدد من القيادات السياسية ورؤساء الكتل النيابية. يرغب الأب في انفتاح نجله على الجميع، وأن يكون صلة الوصل والساعي للتقريب بين الجميع. إن لم يعد التاريخ ذاته فعلى الأقلّ يمكن بعض محطّاته أن تكون عبرة للمرحلة المقبلة. وهذا ما يسعى جنبلاط الأب إلى ممارسته مع الإبن.
في كليمنصو، حيث مقرّ إقامة جنبلاط، تطرّق البحث إلى كلّ الموضوعات المطروحة، رئاسة الجمهورية والمجلس العسكري والوضع في الجنوب وصولاً إلى الوضع الاقتصادي. لكن ما دام الزائر مرشحاً فقد حلّت الرئاسة طبقاً دسماً على المأدبة العائلية. أوضح جنبلاط موقفه من ترشيح فرنجية وأن لا عداوة ولا معارضة لهذا الترشيح، وأنّ الموضوع الرئاسي عالق عند تأمين نصاب الثلثين، وشروطه لا تكتمل إلّا بتوافق إمّا حزب الله والقوات اللبنانية على مرشح أو توافق حزب الله والتيار الوطني الحر، وما دام من الصعب حصول فرنجية على الثلثين، فلمَ لا يتمّ البحث عن مرشّح ثالث، وكيف يمكن طائفة ألّا يكون في عداد أبنائها مرشح خارج أولئك المتداولة أسماؤهم.
نتيجة الأزمة لم يعد "الاشتراكي" يولي اسم المرشّح اهتماماً، فليكن أياً كان. المهم أن ينتهي الأمر بانتخاب رئيس متّفق عليه كي يحظى بأكثرية الثلثين التي تؤمّن نجاحه، ولكن الاتفاق لن يتأمّن من دون حوار. ولذا فإنّ فحوى حراك الاشتراكي هو الدفع باتجاه حوار حول الرئاسة أيّاً كان شكله. لا يؤيّد الاشتراكي مرشحاً بعينه ولا يعارض مرشحاً لشخصه. مسألة الأسماء لم تعد تعنيه وما يعنيه فعلياً هو انتخاب رئيس والخروج من دوّامة التعطيل لمواكبة التطوّرات المتتالية في المنطقة، واحتمالات الحرب الإسرائيلية التي تتصاعد نسبتها.
الاشتراكي بات على اقتناع بأن لا بدّ لمرشّح ثالث للرئاسة يأتي بالتوافق الذي يشكّل بوابة للاستحقاق الرئاسي
ببركة الأب والابْن يسعى الإشتراكي، وهو يعلم في سرّه أنّ حرب إسرائيل على غزّة وجبهة الجنوب فرملتا مساعي حزب الله. فالحزب، وإن كان لا يعارض أيّ صيغة تعرض عليه رئاسياً في سبيل تحريك الجمود، فجلّ اهتمامه هو الميدان الذي يخوضه ضد إسرائيل منطلقاً من الحدود الجنوبية، ولم يعد يلتفت في الوقت الحاضر إلى المسائل الداخلية، وإحداها الرئاسة. ولذا فإنّ الاشتراكي طرح وجهة نظر أخرى يسعى للدفع باتجاهها، ومفادها إن لم نكن قادرين على انتخاب رئيس ومن الصعب التوافق وعقد حوار لذلك، فعلى الأقلّ إطلاق يد الحكومة للقيام بالأمور المطلوبة وتسيير أمور البلد وإجراء التعينات اللازمة، وإلّا فلا يجوز في ظلّ الفراغ أن تبقى الحكومة مكتوفةً، والبلد مجمّداً. وكلّما أراد رئيس الحكومة نجيب ميقاتي عقد جلسة حكومية عليه أن يسترضي الجميع، وينال موافقتهم مسبقاً. يعتبر الاشتراكي أنّ من الواجب عودة الحكومة إلى ممارسة مهمّاتها بشكل طبيعي لتكمل الأمور مسارها في مؤسّسات الدولة.
ما حاول الاشتراكي إفهامه للمرشّح الرئاسي أنّ تغاضيه عن موافقة المسيحيين وإن حصلت، وهي لن تحصل أصلاً، وموافقته والثنائي الشيعي على انتخابه لا تؤمّن له الثلثين.
يمكن الاستنتاج من محضر ما شهدته مداولات الجانبين الرئاسية أنّ الاشتراكي بات على اقتناع بأن لا بدّ لمرشّح ثالث للرئاسة يأتي بالتوافق الذي يشكّل بوابة للاستحقاق الرئاسي، والذي لا يتأمّن إلّا بالحوار ليلتقي بذلك مع حليفه رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي لم يسحب دعوة الحوار من حساباته، ولن يكون بعيداً أن يتولّى جنبلاط جسّ النبض والدفع بهذا الاتجاه، ولو على سبيل تمهيد الأرضية لبرّي، خاصّة أنّ حراك الاشتراكي ليس ببعيد عن برّي والرسول بين كليمنصو وعين التينة ينشط في هذا الاتجاه.
هو بحث هدفه خلق حراك سياسي لعلّه يفي بالغرض. هذا في الظاهر. أمّا في باطن الأمور؟ فإنّ جنبلاط؟ كما غيره، على اقتناع ثابت بأنّ الرئاسة دخلت في مسار التسوية الكبرى، وضمن سلّة واحدة مع ترسيم الحدود وتطبيق القرار 1701، أي أنّها باتت ملحقاً بملف أساسي هو جبهة الجنوب، وأنّ حزب الله لن يبيع استحقاق كهذا إلى طرف داخلي سواء كان القوات أو التيار. بل إنّ مساره بات معلّقاً على اتفاق دول وليس على أفراد أو على كتل نيابية.