يجمع الذين تتبّعوا محادثات الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين وبعض الذين شاركوا فيها، على أنّ محادثاته مع رئيس مجلس النواب نبيه برّي كانت ذات أهمية كبيرة، ولذلك تكتّم الجانبان على ما دار فيها. مثلما جرى التكتم أيضاً على الخلوة التي انعقدت بينه وبين رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، قبل أن ينضمّ إليهما الوفد المرافق وفريق المستشارين الحكوميين.

ومع أنّ أحداً لم يفصح عمّا دار في هاتين الخلوتين، فإنّ البعض توقّف عند ما صدر من مواقف عن برّي وميقاتي بعد مغادرة هوكشتاين، الذي لم تُعرف وجهته بالضبط أهي إسرائيل أم الولايات المتحدة الأميركية. برّي قال عندما سُئل عن الاستحقاق الرئاسي أن "ليس هناك الآن من مرشّح لرئاسة الجمهورية سوى رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، وأنّ بقية المرشّحين ما عادوا موجودين أو لا يريدون الترشّح". مضيفاً "الآن أمامنا مرشّح هو سليمان فرنجية، إذا كانوا موافقين على ترشيحه أدعو إلى جلسة انتخاب وليذهبوا إليها".

أمّا ميقاتي فشدّد خلال لقائه وهوكشتاين على "أنّ الاولوية يجب أن تكون لوقف إطلاق النار في غزّة، ووقف الاعتداءات الاسرائيلية على لبنان والخروق المتكررة للسيادة اللبنانية". وكرّر القول "إنّنا نريد السلم والاستقرار عبر الالتزام بالقرارات الدولية".

فيما قال البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الرّاعي بأنّه "لا يمكن القبول بربط انتخاب الرئيس بوقف الحرب على غزّة". ولكن في جانب آخر عكس الراعي ما يمكن أن يكون دار في الخلوتين بين هوكشتاين وكلّ من بري وميقاتي، وعلى الأقل في الخلوة مع بري تحديداً، من ضرورة انتخاب رئيس للجمهورية قبل البحث في تطبيق القرار الدولي 1701 على الحدود الجنوبية، ليتمّ هذا الأمر في حضوره خصوصاً أن التفاوض على المعاهدات الدولية هو من صلاحياته الدستورية. وقد قال الراعي في هذا الصدد: "أخيراً كثر الحديث في هذه الأيّام، عن حركة دوليّة تهدف إلى ترسيم الحدود البريّة الجنوبيّة للبنان، على الرّغم من أنّ هذه الحدود مُرسّمة ومُثبتة بموجب اتفاقيّات دوليّة منذ أكثر من 100 عام. كلّ هذا يجري وموقع الرئاسة الأولى شاغر، وبوجود حكومة غير مكتملة الصلاحيّات، وهما المرجعيّة الوحيدة الصالحة للبتّ في هذا الشأن الوطنيّ المهمّ جداً. حدّدت المادّة الثانية من الدستور أنّه لا يجوز التخلّي عن أحد أقسام الأراضي اللبنانيّة أو التنازل عنه. ولذلك نحن ندعو إلى تطبيق الإتفاقيّات والقرارات الدوليّة في شأن الحدود البريّة اللبنانيّة الجنوبيّة، ولا سيما منها القرار 1701، وعدم إجراء أيّ تعديل حدوديّ في ظلّ شغور رئاسيّ وسلطة إجرائيّة صلاحيّاتها غير مكتملة".

الاستحقاق الرئاسي اللبناني ربّما يكون قد دخل في سباق مع الوقت المتبقّي أمام الإدارة الأميركية للاهتمام بلبنان

وفي حين لم يكشف أيّ فريق عن موعد عودة هوكشتاين مجدّداً إلى لبنان، ينتظر أن تتركّز الأنظار على الحركة الداخلية بين الفرقاء السياسيين. وفي الوقت الذي رحّب رئيس حزب "القوات اللبنانية" الدكتور سمير جعجع بطرح برّي حول فرنجية، والاستعداد للدعوة إلى جلسة انتخابية جديدة، يترقّب الجميع العشاء المنتظر بين فرنجية والرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، لما يكتسب من أهمّية على مستوى العلاقة بين الجانبين، وكذلك على مستوى الاستحقاق الرئاسي، خصوصاً إذا استعاد الرجلان واقعة صوت الزعيم الراحل كمال جنبلاط، الذي مكّن الرئيس الراحل سليمان فرنجية من الفوز بالرئاسة على الرئيس الراحل الياس سركيس في الانتخابات الرئاسية عام 1970. واللافت بعد مغادرة هوكشتاين أنّ الجانب الأميركي يلتزم الصمت حيال الاستحقاق الرئاسي اللبناني، ولم يصدر عنه أيّ موقف في هذا الصدد، الأمر الذي فسّره مطّلعون على موقف واشنطن أنّه يعني في العلن أن لا مشكلة لديها في من سيُنتخب رئيساً للبنان، وأنّه ما يهمّها هو التهدئة وإقامة وضع جديد على حدود لبنان الجنوبية، حتّى لو كان ثمنه انتخاب فرنجية رئيساً للجمهورية بما يمنع توسّع نطاق الحرب، في ضوء المواجهات الدائرة بين حزب الله وإسرائيل واستمرار الحرب على غزّة.

بيد أنّ هؤلاء المطّلعين يؤكّدون أنّ الاستحقاق الرئاسي اللبناني ربّما يكون قد دخل في سباق مع الوقت المتبقّي أمام الإدارة الأميركية للاهتمام بلبنان، على خلفية الوضع السائد في الجنوب والحرب على غزة قبل التفرّغ ابتداء من أيار المقبل لمعركة الانتخابات الرئاسية الأميركية، لتأمين فوز الرئيس جو بايدن بولاية جديدة على منافسه الرئيس السابق دونالد ترامب. ومن هنا يتخوّف المطّلعون من توسّع الحرب انطلاقاً من الجنوب اللبناني، لأنّ الضغط الأميركي على إسرائيل لتحقيق وقف إطلاق النار على جبهتي غزّة ولبنان بدأ يخفّ تدريجياً يومياً على أن يتلاشى كلياً ابتداءً من أيار المقبل، إذ ينتهي مفعول قوة إدارة بايدن على أن تكون لديها سياسة خارجية فعّالة بسبب الانغماس في الحملات الانتخابية الرئاسية. وفي هذا التوقيت أيضاً سيبدأ ترامب الطامح للعودة إلى البيت الأبيض حملته العنيفة على بايدن باتّهامه بأنّ قراره بالانسحاب السريع من أفغانستان أدّى إلى انهيار الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بدليل ما تتعرّض له قواعدها في المنطقة من هجمات فاق عددها المئة منذ عملية "طوفان الأقصى" إلى الآن. ما عرّض ويعرّض المصالح الاميركية في المنطقة لأضرار جسيمة. وكذلك اتّهامه بإرضاء إيران برفع القيود عن بضعة مليارات من الدولارات، ما مكّنها من تمويل ودعم حماس وأخواتها في حرب غزّة، وتعريض إسرائيل لما تعرّضت له من خطر وجودي جراء "الطوفان" منذ 7 تشرين الأول إلى اليوم.

وفي هذا السياق يقول المطّلعون على الموقف الأميركي إنّ بايدن مهدّد بالسقوط قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي لن تسقط حكومته خلافاً لتوقّعات البعض لأنّه سيستمرّ في الحرب على غزّة، مراهناً على عودة صديقه ترامب إلى البيت الأبيض بنتيجة الانتخابات المقبلة. ولذلك تبدو الإدارة الأميركية الحالية هي المأزومة وليس تل أبيب التي بدأت تتفلّت من ضغوط واشنطن، وقد اتّخذ مجلس حربها في جلسته الأخيرة التي سادها نفور وتوتّر بين نتنياهو ووزير دفاعه يؤلآف غالانت قراراً قضى بإعادة بناء الصناعات الدفاعية لتلافي الحاجة للحصول على ذخائر من واشنطن وغيرها لتأمين حاجات الاستمرار في الحرب.

ولذلك يعتقد المطّلعون أنفسهم أنّ الإدارة الأميركية هي في الطريق إلى التأزّم إذا فشلت في إيجاد حلّ للحرب في غزّة وعلى الحدود اللبنانية الجنوبية، لأنّه كلّما اقترب موعد السباق بين بايدن وترامب إلى البيت الأبيض، تراجع منسوب الضغوط على المعنيين لإيجاد الحلول المطلوبة. وفي هذا السياق يكشف المطّلعون على الموقف الأميركي جانباً من مضمون المحادثات الأخيرة التي أجراها وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن في المنطقة، فيقولون إنّ القيادة السعودية أبلغت إليه أنّها مستعدة للتطبيع مع إسرائيل والمساعدة على إعادة إعمار غزّة بشرط أن توقف إسرائيل إطلاق النار وتعلن قبولها الجدّي والفعلي بأن يكون للفلسطينيين دولتهم المستقلّة في إطار صيغة " حلّ الدولتين". ولكن عندما فاتح بلينكن نتنياهو بهذا الطرح السعودي أعلن رفضه وقف إطلاق النار و"حلّ الدولتين" معاً.

وفي ضوء هذه المعطيات، فإنّ الاعتقاد السائد هو أنّ إسرائيل ليست في وارد وقف الحرب على غزّة، وأنّ تهديدها بشن ّحرب تدميرية على لبنان يبقى تهديداً جدّياً، ولكنّه مأخوذ بالحسبان لدى "حزب الله"، خصوصاً أنّ نتنياهو يتصرّف على أساس أنّ ترامب عائد إلى البيت الأبيض. ويعتبر الفترة الفاصلة عن مطلع الصيف المقبل عبارة عن مرحلة من الوقت الضائع، سيواصل خلالها حربه بمختلف الوسائل على غزّة، عاملاً على استنزاف حركة "حماس" وأخواتها علّها تخسر الحرب في مواجهته، وذلك في موازاة استمرار المواجهات مع "حزب الله" على الحدود الشمالية إذا لم تتطوّر إلى حرب مفتوحة.