لم يكن في حساب "حزب اللّه" أن تتصدّر اليمن مشهد الصراع مع الغرب وإسرائيل على خلفية حرب غزة، ويتراجع دوره إلى الصف الثاني أو الثالث، بعدما كان في موقع لافت للانتباه والانشغال الأوّل بفعل حرب "المشاغلة" التي شنّها عبر جبهة جنوب لبنان ابتداءً من 8 تشرين الأول الفائت.

قد لا يعلّق "الحزب" أهمّية على من يتصدّر واجهة التصدّي ضمن محور "وحدة الساحات"، طالما أنّ جميع أذرع هذا المحور تأتمر بقرار الرأس الموجود في طهران، وليس هناك حاسد ومحسود، أو منافس ومشاكس، بين هذه الأذرع، تحت السقف الاستراتيجي الواحد.

لكنّ حسابات هذا "الرأس" لا تلتزم دائماً وبالضرورة المصلحة المحليّة والموضعيّة لكلّ طرف من أطراف "المحور"، ولا تمنحه بشكل مطلق حرّية الحركة والقرار وفق ما أعلن السيّد حسن نصراللّه ذات خطاب.

وقد اتّضح أنّ الأولوية الإيرانية في هذه المرحلة ليست لـ"مشاغلة" إسرائيل من جنوب لبنان، بل لدور اليمن في حماية المكتسبات الاستراتيجية لطهران بين أفريقيا وآسيا وعلى امتداد ممرّات الثروات ومخزوناتها البرية والمائية، وتثبيت النفوذ في دول عربية أربع.

ولذلك، يحترم "حزب اللّه" ويلتزم بدقّة هذه الأولوية، ويتقشّف في طموحاته وأهدافه، متراجعاً من عنوان إزالة إسرائيل بـ"الضربة القاضية"، أو اجتياح شمالها على الأقل، إلى شعار تسجيل النقاط، علماً أنّه لا يستطيع، بعد مئة يوم من المواجهات العنيفة على خط 100 كلم من البحر إلى مزارع شبعا، إعلان نقطة بارزة ومؤثّرة يمكنه الاعتداد بها، مع أنّه دفع ويدفع أثماناً ثقيلة بشرياً ومادياً ومعنوياً، وتمّ تسجيل نقاط عليه وليست له، وتحديداً في مسألة الاغتيالات.

الأولوية الإيرانية في هذه المرحلة ليست لـ"مشاغلة" إسرائيل من جنوب لبنان، بل لدور اليمن في حماية المكتسبات الاستراتيجية.

ولا شكّ في أنّ هذا الواقع الميداني والسياسي الصعب الذي يطوّقه، يسحب من يده فرصة توظيف المواجهة إلى المستوى الذي كان يشتهي، ويجعله محكوماً بفتح باب المفاوضات والمساعي، سواء عبر مفاوضه الأميركي المفضّل عاموس هوكشتاين، أو سواه من فرنسيين وقطريين، ومن خارج شرط ربط هذه المفاوضات بوقف الحرب على غزّة، بعدما تبيّن أن هذا الربط لم يعُد واقعياً أو متاحاً.

وقد بدأ بالفعل يلج هذا الباب التفاوضي محاولاً استخدام مِنّة التهدئة والاتجاه إلى التبريد، آملاً في الحصول على ثمنَين أو مكسبَين:

الأوّل في الجنوب بقطف ثمار ما سمّاه "تحرير ما تبقّى من أرض ونقاط حدودية" بفعل ضغط سلاحه، وبفضل "بركات غزّة" بحسب قول نصراللّه.

والثاني في الداخل بنيله جوائز ترضية في رئاسة الجمهورية وما بعدها، مراهناً على مساومات إيرانية أميركية من البحر الأحمر إلى الناقورة.

لكنّ سعيه إلى ربط التسوية في الجنوب، عبر تنفيذ القرار 1701، بالمكسب السياسي الداخلي، على غرار ما حققه بعد حرب تموز 2006، ليس مضموناً، ولو كانت هناك مخاوف من صفقة ما في هذا الشأن تروّج لها أوساطه أكثر ممّا يطرحها الوسطاء.

والحقيقة أن هناك فوارق عميقة بين ظروف حرب 2006 وظروف حرب 2024، ليس فقط إقليمياً ودولياً مع تبدّل التوازنات وتنامي الضغوط، بل لبنانياً في المرتبة الأولى، وعلى الصعيدَين السياسي والطائفي.

سنتذاك، اكتسب "حزب اللّه" عطفاً شعبياً وسياسياً شبه عام، استثمره بغلبة السلاح في غزوتَي بيروت والجبل واتفاق الدوحة والحكومات ووضع يده على القرار السياسي والاستراتيجي.

ومع الممارسة طوال سنوات، تحالفاً أو خصومة، بدأ يفقد هذا العطف تباعاً، وهو يجد الآن نفسه في غربة عن إرادة معظم اللبنانيين ورغبتهم في الاستقرار والسلام ورفض الحرب.

وإذا صحّت توقعاته، أو أُمنياته ووعوده، بقبض ثمن مزدوج في الجنوب والداخل من صفقة إقليمية دولية بين أقطابها الثلاثة، طهران وواشنطن وتل أبيب، فإنّ الرفض الداخلي لا يُستهان به وليس من السهل تجاوزه، خصوصاً أن هناك تجربتَين ناجحتَين في إفشال سياساته، تجسّدتا في قطع الطريق على مرشّحه الرئاسي الأوحد وفي التمديد لقائد الجيش.

وإذا كان هذا التمديد نتاج تقاطع إرادتَين وطنية وعربية دولية، فإن إجهاض فرص مرشحه تم بتلاقي إرادات داخلية أحبطت الاسناد الفرنسي في حينه.

واستناداً إلى معطيات الميدان والسياسة، من غزة إلى لبنان واليمن (مع انكفائية سوريا ومحدودية العراق)، يظهر أن "محور الممانعة" ليس هو صاحب اليد العليا في تقرير المصائر وفرض الشروط، خصوصاً بعد الضربات المركّزة على الحوثيين، وهذا ينعكس حكماً على حقيقة الحجم الذي سيكون عليه "الحزب" في التشكيل السياسي اللبناني العتيد.

والواقعية السياسية تفرض الاستنتاج أن المكاسب التي حصدها بعد حرب 2006، غير قابلة للتوسّع والتثمير، بل معرّضة للترشيد والتقليم، بدون الذهاب بعيداً إلى حدّ القول إنها قد تتحوّل على الأرجح إلى خسائر.