قلّما يلتقي لبنانيان ولا يكون السؤال عن استقرار سعر الصّرف ثالثهما. "أقنعونا أنّ دولارات السيّاح والمغتربين فعلت فعلها في سوق القطع خلال الصيف المنصرم. وقبلها، لعبت "صيرفة" دور "المضخّة" للعملة الصعبة، وعملية "شفط" الليرات المؤذية. فماذا عن اليوم؟ يسأل أحدهم. "البلد في حالة حرب و"صيرفة" قضت نحبها، والمؤشّرات الاقتصادية، النّقدية والماليّة، أسوأ ممّا كانت عليه، فكيف تثبت الليرة و"لا تطير" في وجه العواصف العاتية؟".   

"اتّخذت إدارة العملة اللبنانية خصائص تذّكرنا بنظام "مجلس النقد" غير الرسمي أو المعلن، في ظلّ قيادة وسيم منصوري (حاكم مصرف لبنان بالإنابة) ونوّابه، بعد رحيل رياض سلامة"، تقول تغريدة لرئيس مجلس إدارة I&C Bank جان رياشي، على منصة X. "وقد أدّى هذا النهج بشكل فعال إلى استقرار العملة، وتالياً الاقتصاد. ممّا (ساهم) إلى الحدّ من حالة عدم الاستقرار بالنّسبة إلى الشركات والأُسر".  

مجلس تثبيت القطع  

تجيب هذه التغريدة عن السبب الكامن وراء استقرار سعر صرف الليرة منذ نهاية تموز 2023، تاريخ إيقاف العمل بـ "بدعة" منصّة "صيرفة". فالمصرف المركزي امتنع عن إقراض الدولة بالدولار، ممّا تبقّى من توظيفات إلزامية تعود إلى المودعين. وتوقّف عن طبع الليرات من أجل تمويل نفقات القطاع العام التشغيلية. وكلّ ما يفعله، راهناً، هو شراء الدولار من السوق للدولة، بقدر ما تؤمّن له من ليرات متأتّية بشكل أساسي من الجباية. في هذه السياسة بعض من نظام صندوق تثبيت القطع، أو ما يعرف تقنياً بـCurrency Board  العامل على طريقة المثل الشعبي "على قدّ بساطك مدّ اجريك". فيوجب طبع كميات من العملة الوطنية بمقدار ما يتوفّر من دولارات، أو أيّ عملة أجنبية أخرى تُعتمد مقياساً كاليورو أو الين... أو سواها من العملات المتينة. أي على العملة الوطنية أن تكون مغطاّة بنسبة 100 في المئة بالعملة الأجنبية.  

المشكلة التي تواجه البلاد المأزومة تكمن عادةً في الانفلاش بطبع العملة الوطنية لتغطية النفقات، الأمر الذي يقود إلى انهيار سعر الصرف وإفلات "وحش" التضخّم. وهذا ما حصل بالضّبط مع لبنان. إذ ارتفعت الكتلة النقدية بالليرة من أقلّ من 5000 مليار ليرة قبل الانهيار إلى نحو 90 ألف مليار. فتسبب ذلك بطلب غير مسبوق على شراء الدولار، بهذه الليرات؛ مرّة بسبب فقدان الثّقة بالعملة الوطنية، ومرّات من خلال استهلاك السلع، التي تُستورد من الخارج بنسبة 90 في المئة. هذه السياسة كانت مقصودة. وقد هدفت، ببساطة، إلى تمويل الانهيار بالتضخّم، بدلاً من الإصلاح وتحمّل كلّ من تسبّب به، المسؤولية. و"من دون أن يشيد أيّ شخص في البلاد (وخاصّة المصرفيين والسياسيين وبعض الإعلاميين) بالفكر السحري (في سياسة المركزي الجديدة) والشعوذة كما حصل في الماضي"، بحسب رياشي. "فمن حسن الحظ أنّ النّظام النقدي في البلاد يسترشد الآن بالعقل". إذ توقّف مصرف لبنان عن طبع الليرة وعادت الكتلة النقدية بالليرة الموضوعة في التداول للانخفاض إلى نحو 48 ألف مليار ليرة. وهو الأمر الذي انعكس مباشرةً على سعر الصّرف.  

تثبيت السياسة الفعّالة بقانون أو تعديل دستوري 

الإيجابية المحقّقة من سياسة مصرف لبنان النقدية قد لا تستمرّ طويلاً، "ما لم تقرّ بقانون يمنع المركزي من إقراض الدولة"، يقول رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق - LIMIS الدكتور باتريك مارديني. "أكثر من ذلك، فإنّ بعض البلدان تُدخل الإجراء من ضمن تعديل دستوري. وهو ما قد يصحّ أكثر في لبنان. ذلك أنّ تغيير القوانين أو تعديلها يتطلّب موافقة نصف مجلس النواب، فيما يتطلّب تعديل الدستور موافقة ثلثيه. أمّا إذا اعتمدت كسياسة مؤقتة أو ظرفية من المصرف المركزي فمن السّهل الرجوع عنها. خصوصاً في ظلّ "التهديد المحتمل لتمويل العجز الحكومي أو تحويل الودائع من خلال الليلرة - وهذا الأمر الأخير جزء من خطّة الحكومة"، بحسب ما يضيف رياشي، لافتاً إلى "ضرورة تنفيذ التدابير التشريعية لمنع مصرف لبنان من تمويل الحكومة بشكل مباشر أو غير مباشر (من خلال شراء سندات خزينة) ليفرض على الحكومات الانضباط المالي، وإجبارها على تمويل أيّ عجز من خلال الأسواق المالية فقط. وفي الوقت نفسه، ينبغي اتّخاذ خطوات لمنع المصارف من تملّك سندات حكومية، لأنّ تجاوزات الماضي تؤكّد ضرورة الانضباط داخل القطاع المصرفي. وفي غمرة هذه التحديات، ربّما الحلّ الأمثل هو إنشاء نظام شرعي رسمي وملزم لنظام مجلس النقد". 

استعادة الثّقة  

سياسة إلزام مصرف لبنان بوقف طبع الليرات من أجل تمويل عجز الدولة، سواء أسميناها مجلس تثبيت القطع أو مجلس نقد أو غيرهما من الأسماء، "فهي تسهم بتعزيز الاستقرار وإعادة الثقة بالبلد والاقتصاد وعودة الرساميل وخفض معدّلات الفوائد بعد استعادة المصارف عافيتها"، من وجهة نظر مارديني. "في حين أن عدم تشريعها بشكل واضح يبقى محطّ تشكيك عند المستثمرين والمواطنين، لإمكانية الرجوع عنها تحت أيّ ظرف وفي أيّ وقت. وهذا ما يؤدي إلى عودة سعر الصرف للانهيار وزيادة المخاطر والحدّ من قدرة البلد على جذب الرساميل والإبقاء على ارتفاع الفوائد التي ستأخذ في الاعتبار مخاطر الخروج من هذه السياسة وإعادة انهيار سعر صرف الليرة في المستقبل.  

صندوق تثبيت القطع وسعر الصرف  

لعلّ أكثر ما يهمّ اللبنانيين بالدرجة الثانية من بعد ضمان استقرار سوق القطع، هو سعر الصرف. ففي حين يعتبر الكثيرون أنّ سعر الصرف، اليوم، في السوق 98500 ليرة مبالغ فيه، ومن الممكن أن يكون أقلّ من ذلك. يعتبر ماردين أنّ السعر المتداول  حالياً هو السعر الأقرب إلى الحقيقة". فهناك عاملان يحدّدان سعر الصّرف:  

  • كمّية الليرات التي تضخّ في السوق. وما دامت هذه الكمّية مستقرّة يستطيع سعر الصرف أن يكون مستقراً.  
  • حجم احتياطي العملات الأجنبية في المصرف المركزي وما إذا كانت في ازدياد أو تناقص. ففي حال تراجع الاحتياطي، يعني أنّ سعر صرف الليرة مبالغ فيه، ويجب أن يكون سعر صرفها مقابل الدولار أقلّ. أما ازدياد الاحتياطي فيمكّن من تحسن سعر الصّرف. وعليه، فإنّ السّعر المتداول به في لبنان يعكس حقيقة السوق، من دون الأخذ الدولار القديم المجمّد في المصارف (ودائع تقدّر بحوالى 92.5 مليار دولار).  

استطاع تماهي المصرف المركزي مع نظام صندوق تثبيت القطع أن يؤمّن الاستقرار ظرفياً. فيما توسيع المنافع وترسيخها يتطلّب تثبيت هذه السياسة بالقانون لضمان عدم تجاوزها تحت أيّ ظرف من الظروف. وبذلك يكون لبنان قد خطا أولى خطواته في سياسة الإصلاح النقدي بعد مضي أربع سنوات على الانهيار.