يشبّه رئيس الوزراء الإثيوبي آبيي أحمد تولّي الحكم في الدول الإفريقية بأنّه مثل رجل يهرب من انهيار جبل جليدي، في دلالة على البقاء في حالة القلق وعدم القدرة على الشعور بالاستقرار. 

ربما لهذا السبب يمكن تفسير الكثير من القرارات المفاجئة التي اتّخذها منذ تولّيه السلطة عام 2018، مثل إبرام معاهدة سلام مع أريتريا نال بسببها جائزة نوبل للسلام. ولم يطل به الأمر حتّى أمر باجتياح الجيش الإثيوبي لإقليم تيغراي في الرابع من تشرين الثاني 2020، غداة الانتخابات الرئاسية الأميركية التي شدّت أنظار العالم إليها بسبب المنافسة الحامية بين الرئيس عامذاك دونالد ترامب والمرشّح الديموقراطي جو بايدن. 

هذه الصفقة التي تعيد لإثيوبيا متنفّساً مائياً للمرّة الأولى منذ انفصال إريتريا عن أديس أبابا

وكعادته في انتقاء تواريخ ذات أبعاد رمزية، اختار آبيي الأول من كانون الثاني الجاري، لتوقيع "مذكّرة تفاهم" مع رئيس "جمهورية أرض الصومال" المعلنة من جانب واحد موسى بيهي عبدي، تستأجر بموجبها إثيوبيا لمدة 50 عاماً واجهة بحرية في ميناء بربرة المطلّ على خليج عدن تمتدّ على مسافة 20 كيلومتراً مع قاعدة عسكرية. وفي المقابل، تدخل أديس أبابا "جمهورية أرض الصومال" شريكاً في شركة الخطوط الجوية الإثيوبية مع تعهّد بالاعتراف بهذه "الجمهورية" التي لم يعترف بها أحد منذ إعلانها عام 1991 عقب انهيار نظام سياد بري في الصومال. 

هذه الصفقة التي تعيد لإثيوبيا متنفّساً مائياً للمرّة الأولى منذ انفصال إريتريا عن أديس أبابا عام 1993 وتخرج البلاد ممّا يسميه آبيي أحد "سجناً جغرافياً"، لم تسر بالسلاسة التي توقّعها الرجل الذي ربما راهن على أن الانشغال العالمي بحروب غزة وأوكرانيا والسودان، قد لا يثير ضجة سياسية تعرقل هذه الفرصة التاريخية. 

ثارت ثائرة الحكومة الصومالية التي اعتبرت "مذكرة التفاهم" بين أديس أبابا و"أرض الصومال" بأنّها بمثابة "عدوان صارخ" على سيادة الصومال. ووقّع الرئيس الصومالي حسن شيخ أحمد قانوناً ألغى فيه المذكرة. وسارعت واشنطن والاتحاد الإفريقي ومصر إلى الإعراب عن القلق للتوتّر الجديد في القرن الإفريقي وشرق إفريقيا، خصوصاً أنّ ميناء بربرة غير بعيد عن باب المندب الذي يشهد هذه الأيام توتّرات متصاعدة نتيجة اعتراض الحوثيين لسفن تجارية تقصد ميناء إيلات الإسرائيلي، وردّ الولايات المتحدة بإنشاء تحالف "حارس الإزدهار" البحري من أجل ما تقول إنّه حماية خطوط الملاحة البحرية التي عزفت كبريات الشركات العالمية عن تسيير سفنها فيها، بسبب التوتّرات المتصاعدة هناك. 

ربما التوقيت هذه المرّة لم يسعف آبيي أحمد في تحقيق مراده، بل إنّه وجد نفسه وسط أزمة إقليمية جديدة تضاف إلى أزمته مع مصر والسودان حول سدّ النهضة، بينما ذيول الحرب التي خاضها ضد إقليم تيغراي لم تصل إلى خواتيمها بعد. 

لكن عاصفة الاعتراضات التي هبّت في وجهه، قد لا تثني الرجل، الذي يرى أنّ من حقّ ثاني أكبر دولة إفريقية و"الإمبراطورية" السابقة ومقر الاتحاد الإفريقي، عن المضي في تحقيق طموحه إلى منفذ مائي، يغني بلاده عن الاعتماد شبه الكلّي على ميناء جيبوتي (الصومال الفرنسي سابقاً). 

وليست المرّة الأولى التي يسعى فيها آبيي أحمد إلى إبرام اتفاق مع "أرض الصومال" التي كانت تعرف بـ"الصومال البريطاني". إذ إنّ أديس أبابا أبرمت عام اتفاقاً من أجل الحصول على 19 في المئة من أسهم ميناء بربرة الذي كانت عمليات توسعته قد بدأت للتوّ. لكن ذلك سرعان ما اصطدم بمعارضة قويّة من مقديشو، أدّت إلى سقوط الاتفاق بعد أربعة أعوام. 

وإثيوبيا نفسها خاضت قبل عقود حروباً مع الصومال من أجل السيطرة على إقليم أوغادين الغنيّ بالمعادن. ولذلك استيقظت مجدداً العداوة التاريخية بين أديس أبابا ومقديشو. وذهب الرئيس الصومالي إلى إريتريا قبل أيام في خطوة رمزية تدلّ إلى اعتزامه استغلال حساسية العداء بين إريتريا وإثيوبيا، من أجل الضغط على آبيي أحمد للتراجع عن الاتفاق مع "أرض الصومال". 

وفي المشهد الأوسع، كادت طموحات آبيي أحمد تثير مجدداً نزاعاً آخر في القرن الإفريقي وشرق إفريقيا، في وقت لا تزال الحرب السودانية مستعرة. وفي خطوة غنيّة بالدلالات، استقبل آبيي أحمد الأسبوع الماضي قائد قوات الدعم السريع السودانية محمد حمدان دقلو. وكانت أديس أبابا مكاناً للقاء بين دقلو ورئيس الوزراء السوداني السابق عبدالله حمدوك، الذي يترأس تجمّعاً من القوى المدنية التي تطالب بوقف الحرب فوراً. 

جهود آبيي أحمد في اتجاه السودان أثارت حفيظة قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان الذي دعا أديس أبابا إلى الكفّ عن التدخّل في الشؤون السودانية. 

هذه التطورات في القرن الإفريقي تشير إلى أنّ آبيي أحمد لا يخاطر من أجل أهداف تجارية فحسب، وإنّما يرى أيضاً أنّ وصول بلاده إلى مياه البحر الأحمر، يجعله لاعباً قوياً في مرحلة من التقلّبات والتحوّلات التي تشهدها المنطقة. 

ووفق ما تنقل مجلة "الإيكونوميست" البريطانية عن ديبلوماسي أوروبي تعليقاً على تطورات القرن الإفريقي: "إنّه عصر إذا لم تكن فيه طائشاً وعديم الرحمة، فإنّ أحداً لا يقف في طريقك... إنه درس أتقنه آبيي أحمد جيداً".