كانت الحرب السودانية في شهرها السادس عندما اندلعت الحرب في غزة. وتحوّلت الأنظار بالكامل تقريباً إلى الشرق الأوسط وكاد الصراع بين الحليفين السابقين، قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو الملقب "حميدتي" يختفي من الأخبار، علماً أنّ السودان هو ثالث أكبر البلدان الإفريقية ويمتلك حدوداً مع سبعة دول، ويطلّ على البحر الأحمر المضطرب هذه الأيام.

على رغم أنّ انفجار الحرب في السودان في 15 نيسان الماضي، كان لاحقاً لاندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية في 22 شباط 2022، فإنّ لاعبين إقليميين ودوليين سعوا إلى التوسط بين البرهان ودقلو، حتّى لا يتشتّت الإهتمام العالمي عن أخطر نزاع تشهده القارّة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية.

وأشرف مسؤولون أميركيون إلى جانب مسؤولين سعوديين على محادثات بين ممثلين للبرهان ودقلو في مدينة جدة السعودية، من دون التوصّل إلى نتائج إيجابية. حتّى أنّه قبل أسابيع جرت محاولة مماثلة لم تصادف أيّ حظ في النجاح.

الحرب السودانية التي تحوّلت حدثاً منسياً أمام حربي غزة وأوكرانيا، لم تخفّ وتيرتها في الأشهر الأخيرة. وبحسب أرقام الأمم المتحدة فإنّ السودان يعاني أكبر أزمة لجوء ونزوح في العالم، إذ بلغ عدد من نزحوا عن ديارهم ومن لجأوا إلى الدول المجاورة بسبب القتال، 7 ملايين شخص. ونتيجة لهذا الواقع، حذّر برنامج الغذاء العالمي الأسبوع الماضي، من أنّ السودان "يواجه أزمة جوع كارثية"، وأعلن عن توقّف بعض المساعدات التي يقدّمها في ولاية الجزيرة، نظراً لتمدّد الحرب إلى جنوب الخرطوم وشرقها.

وفاقم من أزمة النّزوح، استيلاء قوّات الدعم السريع على مدينة واد مدني جنوب الخرطوم في الأيام الأخيرة. وهكذا يجد مئات آلاف المدنيين الذين فرّوا من العاصمة السودانية بعد اندلاع الحرب، أنفسهم في مواجهة أزمة نزوح جديدة. وواد مدني هي بعد الخرطوم ثاني أكبر مدينة في السودان.

ويحدث الشيء نفسه في ولاية دارفور التي تجدّدت فيها الحرب العرقية، مع قيام ميليشيات موالية لقوّات الدعم السريع بمهاجمة قبائل إفريقية في الولاية التي يسعى دقلو إلى السيطرة عليها، وطرد الجيش السوداني منها. ومعلوم أنّ دقلو شارك في حرب دارفور في العقد الأول من القرن الحالي، وكان الرئيس السوداني السابق عمر حسن البشير قد أنشأ قوات الدعم السريع من أجل مساندة الجيش في حربه ضدّ القبائل الإفريقية، في نزاع أدّى إلى مقتل أكثر من مليون شخص وتشريد ملايين آخرين. وها هو المشهد الدّامي نفسه يتكرر مجدّداً.

ومع استمرار الحرب تبرز المخاوف من أن يقود النزاع إلى تقسيم آخر للسودان بعد انفصال جنوب السودان عام 2011.

وفي وقت سابق من الشهر الجاري، اتّهم وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن طرفي النزاع بارتكاب "جرائم حرب"، بينما تحدّث عن ارتكاب قوّات الدعم السريع تحديداً "لجرائم ضدّ الإنسانية والقيام بتطهير عرقي". وقبل بلينكن، أشار الوزير البريطاني للشؤون الإفريقية أندرو ميتشيل إلى أنّ ثمة دلائل على ارتكاب "مجازر خطيرة" بحقّ المدنيين، خصوصاً في دارفور.

بدأ النزاع الحالي في السودان بسبب الصراع على السلطة بين البرهان ودقلو. من سيكون الرّجل الأوّل في البلاد. وهما يتحمّلان مسؤولية إضاعة فرصة ذهبية بعد إسقاط حكم البشير بثورة شعبية في العام 2019. ذلك أنّهما اتّحدا ضدّ القوى المدنية التي قادت الثورة، وعندما استشعرا بالخطر انقلبا على البشير وتسلّما الحكم، وعملا على منع الانتقال إلى الحكم الديموقراطي.

وكانت بدعة مجلس السيادة الذي ارتضى البرهان ودقلو باقتسامه مناصفة بين العسكريين والمدنيين، مجرّد مناورة من العسكريين الذين لا يريدون تسليم السلطة للمدنيين. والدليل على ذلك هو الانقلاب الذي نفّذه البرهان ودقلو على النصف المدني في المجلس في تشرين الأول 2021 بإسقاط حكومة عبدالله حمدوك قبل أيام فقط من الموعد المقرّر لتولي المدنيين رئاسة المجلس السيادي.

بعد هذا الانقلاب، انفرد الجنرالان بالسلطة، بينما كان يدور بينهما صراع خفي، برز على السطح دفعة واحدة في 15 نيسان الماضي، بعد توقيع البرهان على "الاتفاق الإطاري" مع القوى المدنية وبرعاية الغرب، والذي نصّ على مرحلة مؤقتّة يصار بعدها إلى إجراء انتخابات، على أن يتمّ في هذه الأثناء دمج قوات الدّعم السريع بالجيش السوداني في فترة سنتين.

اعترض دقلو على المدّة المحدّدة لفترة الدمج، وطالب بأن تكون عشرة أعوام. ورأى أنّ تقصير المدّة إلى سنتين الهدف منه الحدّ من أيّ دور سياسي له في المستقبل.

ومع استمرار الحرب تبرز المخاوف من أن يقود النزاع إلى تقسيم آخر للسودان بعد انفصال جنوب السودان عام 2011. وكلّ ذلك يجري وسط استفحال الأزمات الإنسانية من الفقر إلى الجوع والنزوح في بلد كان يوصف في الماضي بأنّه "سلّة الخبز المستقبلية لشرق إفريقيا".