يستمرّ شبح إلغاء الوظائف بالتخييم فوق القطاع المصرفي. فلا يكاد يمرّ يوم منذ مطلع العام من دون أن تطالعنا مواقع الأخبار بآلاف عمليات الصرف من المصارف. وقد أفادت صحيفة "فاينانشال تايمز" بأنّ "20 مصرفاً من بين الأكبر في العالم خفّضت حوالى 62 ألف وظيفة خلال الأشهر الماضية. ومن المتوقّع أن تستمرّ التضحية بالبشر هذا العام في سبيل حماية هوامش الربح، وتحقيق أكبر العوائد". 

من يرى "مصيبة غيره"، من الموظّفين اللبنانيين الذين صرفوا، ويُصرفون بالجملة من البنوك "لا تهون عليه مصيبته". فشتّان ما بين عمليّات الصّرف العالمية المبنيّة على رؤية واضحة، والقائمة على تعويضات مجزية وضمانات إنسانية، وتلك المحلّيّة التي تُمرّر كـ "النعس"، لـ "تصحّي" المصروفين على كوابيس الإجحاف، والفقر والعوز والبطالة.  فمنذ خريف العام 2019 إلى مطلع العام الماضي، خسر 9167 شخصاً وظائفهم في القطاع المصرفي، بحسب آخر تقرير نشرته جمعيّة المصارف في آب 2023. وقد تزامنت عمليات الخروج الطوعية أو الاجبارية مع إقفال 276 فرعاً وإلغاء العديد من الوظائف في اقسام مختلفة. ومن المتوقّع أن تستمرّ هذه العملية "على قدم وساق"، هذا العام، مع فقدان المصارف كلّ مهامها. وآخرها إلغاء منصّة صيرفة، التي كانت تشغّل بعض أقسام المصرف وفروعه وتحقّق عائدات مجزية (5 في المئة).

عودة الصّرف على أساس المادّة 50 من قانون العمل 

الطّامة الكبرى هذا العام لا تتعلّق باستمرار عمليات الصرف، فهذه متوقّعة، إنّما بـ "التعويضات التي عاد عدد كبير من المصارف إلى تسديدها بناء على المادة 50 من قانون العمل، على أساس أنّ الحدّ الأدنى الرسمي للأجور قد رُفع إلى 9 ملايين ليرة"، يقول رئيس نقابة موظّفي المصارف أسد خوري. "فيتمّ احتساب التعويض على أساس الراتب الأخير المصرّح به، والذي يراوح بين 9 و14 مليون ليرة بالنسبة للغالبية العظمى من الموظفين، مضروباً بما بين 3 إلى 12 شهراً". وعلى هذا الأساس فإنّ أكبر تعويض يُدفع بناء على هذه المعادلة، يبلغ 170 مليون ليرة، أو ما يعني 1900 دولار. و"هذا ظلم وافتراء لن نقبله، ولن يمرّ بأيّ شكل من الأشكال"، يشدّد خوري. 

الترحّم على التعويضات السابقة!

الطريقة الجديدة التي تَحتسب بها بعض المصارف التعويضات، جعلت الموظّفين يترحمون على آليّة الصّرف القديمة التي كانت تحوّل التعويض إلى لولار، وتُسدّد دفعات على أساس سعر صرف 15 ألف ليرة. "وهي الآلية التي سمحت بمضاعفة التعويضات 10 مرّات خلال عمليات الصرف في السنوات السابقة"، بحسب خوري. "حيث أنّ تعويضاً بقيمة 45 مليون ليرة، مثلاً، يُحتسب 30 ألف لولار، ويُدفع على أساس 15 ألف ليرة، فيبلغ مجموع التعويض 450 مليون ليرة". وعلى الرّغم من هذا التعويض الزهيد، فهو يبقى أحسن بما لا يقاس مما يطرح راهناً، وسط موجة صرف جديدة من المتوقّع أن تكون الأكبر إذا تمّت  إعادة الهيكلة خلال هذ العام أو لم تتم. ففي الحالة الأولى، لن يقتصر الإقفال على الفروع بل سيشمل مجموعة كبيرة من المصارف التي ستخرج من السوق أو تُدمج أو تُباع. وفي الحالة الثانية سيتعاظم تعطّل عمل المصارف، وتحوّلها إلى صرّافات آلية، واتجاهها إلى إحلال الخدمات الألكترونية مكان البشرية، وتقليصها عدد الفروع إلى الحدّ الأدنى. للمثال فإنّ واحداً من المصارف، متوسّط الحجم سيُبقي هذا العام على فرع واحد فقط، بعد إغلاقه عشرات الفروع خلال السنوات الماضية. ووسط هذا الواقع فإنّ الموظف سيدفع الثمن الأكبر "ولا حلّ إلّا بتعديل المادّة 50 من قانون العمل، وموافقة إدارات المصارف على بروتوكول جديد للصرف ضمن عقد العمل الجماعي الموقّع بين نقابة الموظفين وجمعية المصارف"، بحسب خوري. "وليس ترك الخيار لكلّ مصرف على حدة بتنفيذ ما يناسبه من عمليّات الصّرف بشكل استنسابي، وغير مبني على قواعد الشفافية والعدالة والتساوي بين الموظّفين، كما يحدث حالياً". ومن المهمّ بحسب خوري "إعادة تفعيل اقتراح القانون المتعلّق بحماية حقوق الموظفين في عمليات إعادة الهيكلة، الذي أعدّ بمساعدة من نقابة الموظّفين، وتقدّم به عدد من نواب تكتّل الجمهورية القوية. وهو القانون الذي يُلزم المصرف في حال الدمج أو الاستحواذ أو التصفية أو الصرف بداعي الهيكلة بدفع 20 شهراً كتعويض، وشهرين عن كلّ سنة خدمة إلى 36 شهراً. 

 

مصارف جديدة 

بإزاء هذا الواقع، وفي ظلّ استبعاد الوصول إلى إعادة الهيكلة في وقت قريب، تفيد أوساط مصرفية بأنّ مصارف عالمية كبيرة تبدي اهتماماً بالمصارف اللبنانية. ولا سيما منها الصغيرة جداً، غير المثقلة بالأعباء وغير المكشوفة على الديون السيادية المسمومة. ومن المتوقّع، بحسب الأوساط المعنية، أن نشهد خلال هذا العام أكثر من عملية شراء لمصارف محلية، وأنّ هذا الاهتمام نابع من مصلحة في الاستثمار في القطاع المصرفي اللبناني للمرحلة المقبلة من دون تكبّد عناء الحصول على تراخيص جديدة، وبناء إدارات وفروع من الصفر والدخول في عمليات توظيف ونشر صرّافات آليّة وإلى ما هنالك من إجراءات مصاحبة لمثل هذا النّوع من الاستثمار. فهذه المصارف قائمة، ولا تتجاوز كلّ ديونها عشرات الملايين من الدولارات، يمكن تسديدها بسهولة على دفعات شهرية، والاحتفاظ بمودعيها وزيادة عددهم. وبحسب الأوساط نفسها، فإنّ هذه الطريقة لن تنعكس إيجاباً على المودعين الذين سيستردّون أموالهم فحسب، إنّما أيضاً على الموظّفين الذي سيعودون للعمل في بيئة مصرفية محترفة، وبأجور مجزية.

كما تُركت الأزمة لتصحّح نفسها بنفسها، ستبدأ عملية إعادة الهيكلة بالقطاع المصرفي من دون تدخّل رسمي. ويستشفّ بسهولة من أحاديث المعنيين بالقطاع المصرفي، فقدان الأمل بأيّ تغيير جوهري قد يطرأ على الوضع الراهن. آراء أكّدها أخيراً تقرير "مختبر تمويل التنمية" The Finance for Development Lab Paris- FDL، الذي ذكر صراحةً في تقريره الأخير تحت عنوان "الطريق غير المؤكّد من أعباء الديون المتراكمة إلى مسار نمو جديد": "كان تحريف الواقع وتحويله باتجاهات بديلة لتبرير النظام الحالي أمراً ثابتاً في الماضي، لكنّه أصبح أكثر وضوحاً الآن، إذ يرفض السياسيون الاعتراف بإفلاس البلاد، ويتصرّفون كما لو كان ينبغي قبول الوضع الحالي، كما لو أنه وضع طبيعي جديد".