سحبت الحكومة "لقمة" تحرير الإيجارات القديمة غير السكنية "من فم" المالكين، عقب إقرارها بقانون في مجلس النوّاب. فتحْتَ عنوان "البحث في الخيارات الدستورية المُتاحة"، قرّر رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي عدم نشر القانون المذكور، والمقرّ في الجلسة التشريعية منتصف كانون الأول من العام الماضي، في الجريدة الرسمية. وهو ما فتح باب استمرار التشوّه على مصراعيه بواحد من أكثر الملفّات حساسية، المعلّقة منذ انتهاء الحرب الأهلية. 

اتّفاق الجميع على الغبن اللاحق بالمالكين كـ "عنوان عريض"، جرّاء تقاضي بدل إيجارات عن محال لم يعد يشتري حبّة دواء، يقابله اختلاف على الزوايا الضيّقة في التطبيق. فعلى غرار كلّ الملفات التي يختلط فيها القانوني مع الإنساني، "تكمن شياطين" هذا الملف "في التفاصيل". وما يزيد "طين" الإبهام "بلّة" هو تقدّم المشرّعين بمشاريع قوانين ترتكز بغالبيتها على الشعبوية والعلاقات المصلحية، من دون وجود دراسات "إكتوارية" دقيقة، وإحصاءات فعلية، وزيارات ميدانية مبنية على الوقائع الحسّية. وعليه تخرج القوانين دكمة واحدة، معدومة التمييز في الحالات، ومن دون استثناءات. وهذا ما حدث بالفعل مع القانون الصادر أخيراً والمتعلّق بتعديل قانون الإيجارات للأماكن غير السكنية. فهو إن كان منصفاً لعموم المالكين، فقد يلحق غبناً ببعض قدامى المستأجرين، ممّن تراجع نشاطهم الاقتصادي، من جهة. ويشكّل استمراراً، من الجهة الثانية، لاستغلال المأجور من قبل البعض الآخر ممّن "دولر" أسعار بضائعه وخدماته. فمن يفرز النسبة بين المغبونين والمستغلّين، ومن يحدّد تأثير تحرير بدل الإيجارات غير السكنية على الواقع الاقتصادي العام، وتالياً على نسبة النمو التي تعود لترتدّ سلباً على كلّ شرائح المجتمع. ومن يقرّر ما تتطلّبه العقارات من إصلاحات، وعلى عاتق من تقع أعباؤها، كيلا تتحوّل إلى ركام يفوّت على المالكين حقّهم، ويشكّل خطراً على السلامة العامة... أسئلة كثيرة لا يجيب عليها القانون بوضوح وشفافية. وهو ما يجعل من "الفيصل" في تنظيم العلاقات بين طرفين، "قاطعاً" بدلاً من أن يكون "لاحماً".  

"ائتلاف" المعارضين 
مقابل إصرار نقابة المالكين على استرجاع حقّها الضائع منذ سنوات طويلة، اجتمع كلّ المتضررين، فرادى وأسراباً، للتصدّي للقانون. فرفضته الجمعيّات التجارية، وتجمّع الحقوقيين، ولجان المستأجرين، ونقيب الأطباء... وصولاً حتّى إلى المدافعين عن حقوق العمّال والمستخدمين. إذ اعتبر رئيس لجنة الدفاع عن حقوق المستأجرين النقابي العمالي كاسترو عبدالله، أنّ "معضلة الإيجارات غير السكنية أكبر بكثير من تلك السكنية. وهناك جزء من هذه الإيجارات يعود لمؤسسات القطاع العام من وزارات ومدارس ومراكز للضمان الاجتماعي ومكاتب لمؤسسات رسمية. والجزء الآخر يعود لمؤسسات القطاع الخاص. وإذا طبّق القانون على النحو الذي خرج به فسيشكّل أزمة اقتصادية، ويعرّض آلاف العمّال للصرف بحجّة إقفال المؤسسات، وعدم قدرتها على تحمّل المزيد من التكاليف. خصوصاً أنّ قيمة الإيجارات التي حدّدها القانون بعد تحريرها كبيرة جداً وغير مسبوقة، وهي تشكّل 8 في المئة من قيمة المأجور. وعليه فإنّ أصغر محلّ تجاري بحجم عشرة أمتار مربّعة، مقيّم بمئة ألف دولار، سيصبح بدل إيجاره السنوي ثمانمائة ألف دولار. هذا عدا الكلفة التي ستتحمّلها المؤسسات الكبيرة والمستودعات والمصانع وغيرها من مؤسسات القطاع الخاص". وبحسب عبدلله، فإنّ "المالكين لا يجدون مستأجرين على أساس عقود إيجارات حرّة مقيمّة بنسبة 1 أو 1.5 في المئة من قيمة المأجور، فكيف لمجلس النوّاب أن يرفع هذه النسبة إلى 8 في المئة على قدامى المستأجرين؟ هذا فضلاً عن تسديد المالكين خلوّاً للمستأجرين بقيمة نصف مليون ومليون دولار في الفترة الماضية ما قبل الانهيار".    


حماية العقارات من تجّار الازمات! 
عبدالله الذي يصرّ على عدم مدافعته عن الكارتلات وحيتان المال، "يخشى على اليد العاملة، وتذرّع أصحاب المؤسسات بالظروف القاهرة لإقفال أعمالهم والخروج برساميلهم من البلد. وهو ما سيفاقم أزمة المداخيل من الاشتراكات في الضمان الاجتماعي. والأهمّ أنّ الظروف الاقتصادية والأمنية التي يمرّ بها البلد لا تحتمل تطبيق مثل هذا القانون. والحل يكون بالعودة إلى تطبيق القانون 160/92. (ينصّ بالمختصر على إخضاع عقود إيجار الأماكن غير السكنية إلى تشريع دائم يراعي خصوصية هذه العقود. وذلك أسوة بما هو معمول به في الدول الأخرى). هذا فضلاً عن ضرورة وضع خطط وتشريعات بعيدة المدى تأخذ بعين الاعتبار ما كفله الدستور والشرع الدولية، من حقّ في السكن. "وبدلاً من العمل على تطبيق القوانين والسهر على أمن المواطنين الاجتماعي، تضع الدولة فئات المجتمع، بعضها في وجه البعض الآخر"، برأي عبدالله "من خلال إقرار قوانين ظاهرها مراعاة مصالح المالكين، وباطنها خدمة أجندات مخفية تصبّ في النهاية في مصلحة تجّار العقارات والمصارف. فبقاء المستأجرين القدامى، يخدم المالك من ضياع ملكه أمام هجمة تجّار الازمات الذين يسعون إلى تبييض ما استولوا عليه في السابق". 


الإيجارات القديمة والأزمة الاقتصادية 
يبلغ عدد عقود الإيجارات القديمة، وفقاً لإحصاءات البلديات العائدة للعام 2014، حوالى 182 ألفاً، "منها ما لا يقلّ عن 50 ألفاً غير سكني"، بحسب تقديرات عبدالله، "نظراً لغياب إحصاءات دقيقة ومحدّثة في هذا الشأن، وعدم تصريح كثيرون من أصحاب الملك والمستأجرين عن إيجاراتهم، لكونهم لا يسدّدون الضرائب والرسوم". 
في المقابل، بيّنت دراسة جديدة للدولية للمعلومات أنّ "قيمة إيجار بعض المحالّ تدنّت إلى مبلغ يراوح بين 10 دولارات ومئة دولار شهرياً، في حين أنّ أرباح هذه المحالّ قد تزيد على 10 آلاف دولار شهرياً. فبعض المستأجرين يحقّقون أرباحاً طائلة في معظم الأحيان على حساب المالكين". إلّا أنّه في المقابل "قد يلحق تطبيق هذا القانون الضرر بالقطاعات الإنتاجية إذ تشير التقديرات، التي تحتاج إلى دراسة دقيقة، إلى أنّ أكثر من 120 ألف محلّ سيكون عرضة للإقفال لعجز المستأجرين عن تحمّل كلفة الزيادة الموعودة للمالكين".  
نقابة المالكين التي كانت "تنتظر ممّن استفاد من الاستثمار المجّاني في المحالّ والمكاتب والمستودعات أن يعترض على قانون الإيجارات للأماكن غير السكنية لأنّه يحرمه من إيجار شبه مجاني يؤمّن له أرباحا غير مشروعة" استغربت أن يأتي هذا الاعتراض على لسان بعض القيادات ومنها نقيب الأطباء. سائلة إيّاه في بيان: "هل الأطبّاء بمداخيلهم المرتفعة في حاجة إلى الاستثمار بإيجارات شبه مجانية في أملاك الناس؟ هل كلفة مراجعة الطبيب شبه مجانية لكي يكون بدل إيجاره شبه مجاني؟ هل كلفة مراجعة الطبيب بالليرة أم بالدولار النقدي، أم بسعر الصرف الحالي ٩٠ ألف ليرة، وهل من المنطق أن يتقاضى بدل مراجعة صحية بالدولار ويدفع وفق سعر شبه مجاني قديم؟ هل يحقّ لكم العيش الكريم من مهنتكم ولا يحقّ للمؤجرين ذلك؟ وهذه الأسئلة تطبّق بحسب مصادر المالكين في كلّ زمان ومكان، وتنطبق على كلّ المستأجرين ممّن يستغلّون أملاكنا لتجميع الثروات ونحن نتسوّل لقمة العيش".  

بين الأمر ونقيضه

تقترح دراسة الدولية للمعلومات الآتي: 
إقرار قانون لفترة السنة أو السنتين المقبلتين بشكل يُنصف المالكين (ومعظمهم يستحقّون) ولا يشمل ضرره المستأجرين، خصوصاً مستأجري المحالّ الصغيرة التي لا تحقّق إلا نزراً يسيراً من الإيرادات، وأيّ زيادة في الإيجارات ستدفعها إلى الإقفال وصرف العمّال (في حال وجودهم)، وتالياً إلحاق الضرر بالاقتصاد. أمّا إذا كانت رغبة المشترع إقرار قانون دائم، فإنّ تحرير الإيجارات يجب أن تكون بعد فترة تُحدّد بناء على دراسة تفصيلية ومسح ميداني لدراسة وضع المالكين ووضع المستأجرين. بحيث يتوقّف استغلال بعض المستأجرين المتمكّنين مادياً للمالكين الذين ظُلموا، ولا يُظلم المستأجر ذات الإمكانات الضعيفة، على أن تكون الزيادات خلال هذه الفترة مقبولة. كما أنّ تحديد قيمة بدل الإيجار بنسبة 8 في المئة من القيمة البيعية للعقار تعتبر مرتفعة وكان يجب أن تكون ما بين 3 في المئة و5 في المئة حدّاً أقصى. 
أثناء البحث في المصادر لكتابة هذا المقال، توقفنا عند جملة "سريالية" بكلّ ما للكلمة من معنى، هي: "إنّ الحكومة إذ تؤكّد على حرّية التعاقد، تعتبر أنّه قد حان الوقت، بعد انقضاء أكثر من خمسين سنة على قوانين الإيجارات الاستثنائية، لوضع قانون دائم يرعى الإيجارات المعقودة". وهذا كان في العام 1992، أي قبل 31 سنة. ما يعني أنّ عمر قانون الإيجارات الاستثنائية بلغ 81 سنة. وهو رقم كفيل وحده بأن يثير قشعريرة المالكين، ويبرّر خشيتهم من احتمال ضياع حقّهم لأجيال بعد تجميد القانون وسحبه من المناقشات... إلى أجل غير مسمّى!