هي الزيارة الأولى لبغداد وقد توافقت مع الذكرى العشرين للغزو الأميركي للعراق، والذكرى السابعة عشرة لإعدام الرئيس العراقي السابق صدّام حسين، والذكرى الرابعة لاغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني وقائد الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس بأمر من الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
الرحلة كانت على متن طيران العراقية من بيروت إلى بغداد عبر الأجواء السورية. ما هي إلّا ساعة ونصف الساعة حتّى وصلنا إلى مطار بغداد، وعندما حطّت الطّائرة على المدرج ورأيت مبنى المطار عدت بالذاكرة إلى عشرين سنة خلت، حين كنت صحافياً في تلفزيون دبي أتابع أخبار معركة المطار بين الجيش العراقي والجيش الأميركي، والتي كانت المعركة الحاسمة التي مهّدت الأرضية لاحتلال القوات الأميركية للعاصمة العراقية وسقوط نظام الرئيس الراحل صدّام حسين.
خرجنا من المطار بمرافقة مستقبلينا الذين انطلقوا بنا في سيارتين باتجاه بغداد، وما إن خرجنا من حرم المطار حتّى أشار السائق، "هنا استشهد الحاج أبو مهدي المهندس والجنرال قاسم سليماني ومعهما ثمانية من مرافقيهما، أربعة عراقيين وأربعة إيرانيين"، وقبالة المكان في الفاصل بين خطّي الطريق نُصب تمثالان للمهندس وسليماني، فيما بدت التحضيرات على قدم وساق للاحتفال بذكرى استشهادهما الرّابعة المقرّرة في الأسبوع الأول من العام الجديد.
وصلنا إلى أطراف بغداد وصادفنا زحاماً كبيراً أخّرنا عن موعدنا المرتقب مع قائد أحد فصائل الحشد الشعبي. وفي الطريق كان علينا أن نعبر داخل المنطقة الخضراء حيث تقع المراكز الحكومية والدبلوماسية، وكان لافتاً كبر المساحة التي تربّعت عليها السفارة الأميركية التي كانت على يميننا والتي امتدّ حرمها حتّى ضفاف نهر دجلة. كبر المساحة هذا بالمقارنة مع مساحة وحجم المراكز الحكومية العراقية شكّل المثال الأبرز على من هو الحاكم الحقيقي في العراق.
عبرنا إلى الضفّة الشرقية لدجلة ووصلنا إلى موعدنا. طبعاً هنالك إجراءات أمنية لأنّ القيادي الذي كنّا سنلتقيه مستهدف بالاغتيال من قبل الولايات المتحدة خصوصاً أنّ إدارة الرئيس جو بايدن وضعته على لائحة الإرهاب بسبب الهجمات التي يشنّها فصيله على القواعد الأميركية قرب مطار بغداد وفي قاعدة عين الأسد وقاعدة حرير، إضافة إلى هجماته ضدّ القواعد الأميركية في التنف وكونيكو وغيرهما من القواعد الأميركية في شرق سوريا.
القرار جاء بالتصعيد تضامناً مع المقاومة الفلسطينية في غزّة ومنذ اليوم الأول لعملية طوفان الأقصى
لكنّ الملاحظ أنّ الفصيل استطاع تصدّر لائحة العمليات ضدّ القوات الأميركية، متجاوزاً العراق إلى سوريا، حتّى أنّه استهدف في بعض الأحيان قواعد إسرائيلية في الجولان السوري المحتل، عدا مسؤوليته عن إحدى الهجمات على ميناء إيلات الإسرائيلي المطلّ على البحر الأحمر، فكيف استطاع هذا الفصيل ذو الإمكانات المحدودة أن يوسّع دائرة استهدافه بهذا الشكل الكبير؟ لا يخفي مضيفنا حقيقة أنّ الفصيل هو جزء من الحشد الشعبي العراقي، وأنّه يعتبر نفسه من ضمن محور المقاومة، وتالياً في خندق واحد مع المقاومة في غزّة وحزب الله في لبنان وسوريا وإيران، وهو يترك لنا الاستنتاج. أمّا عن الخسائر التي وقعت في صفوف الأميركيين فهنالك جزم بأنّها أكبر بكثير مما أقرّت به القيادة الوسطى الأميركية والتي أعلنت عن إصابة نحو سبعين جندياً أميركياً "بصداع."
لكن ألا يخشى الفصيل من ردّ الفعل الأميركي الذي تجلّى باستهداف القوّات الأميركية مقارَّ ومواقع للحشد الشعبي أدّت إلى وقوع خسائر في صفوفه؟ "الشهادة لنا شرف ومبتغى ونحن نسلك طريقها وفقاً للسنّة التي خطّها الإمام الحسين وباقي الأئمّة والمجاهدين ومن ضمنهم الشهيد عماد مغنية والشهيد قاسم سليماني والشهيد أبو مهدي المهندس." وماذا عن العقوبات الأميركية؟ "هذه العقوبات هي وسام شرف نعلّقه على صدورنا ونحن لا نخشاها، وأنا لا أملك حسابات في المصارف الغربية ولا أنوي زيارة الدول الغربية."
هنا ننتقل إلى بعد آخر، وهو العلاقة مع الحكومة العراقية. فالمعروف أنّ الفصيل جزء من الحشد الشعبي الذي يعتبر جهازاً رسمياً حكومياً في العراق، والحكومة في بغداد حريصة على عدم استفزاز الأميركيين. لا يخفي مضيفنا حساسية هذا الموضوع خصوصاً أنّ حكومة محمد شياع السوداني المنبثقة من الإطار التنسيقي الذي يجمع معظم الفصائل الشيعية المقرّبة من ايران، تعتبر نجاحها في تشكيل الحكومة إنجازاً كبيراً لا تريد التفريط فيه، خصوصاً أنّ الولايات المتحدة تمتلك تحالفات واسعة داخل العراق، يمكنها أن تستفيد منها في زعزعة استقرار أيّ حكومة كما حصل مع حكومة رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي في العام 2019، حين اندلعت تظاهرات بدعم من واشنطن أطاحت هذه الحكومة. لكن ما يخشى منه القيادي في الحشد الشعبي هو "في تحريك الولايات المتّحدة لجماعات إرهابية مثل داعش لزعزعة الوضع الأمني في البلاد، لكن كلّ هذا لن يردعنا عن مواصلة عملياتنا الجهادية ضد الاحتلال الأميركي."
لكنّ تصعيد العمليات ضدّ القواعد الأميركية تمّ ربطه بالصراع الدائر الآن في غزّة، فهل يوقف الفصيل عملياته ضدّ القوات الأميركية في حال التوصّل إلى وقف لإطلاق النّار في غزّة، أم سيواصل عملياته حتّى خروج القوات الأميركية من العراق؟ "نبحث كلّ مرحلة في أوانها، أمّا الآن فإنّ عملياتنا هي لدعم إخواننا في غزّة."