أعادت الهيئة العامّة لمجلس النواب مشروع قانون الكابيتال كونترول إلى الحكومة لدرسه والتقدّم بصيغة أخرى خلال فترة شهرين من تاريخه. هذا الأمر يُشكّل فرصة لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي لإعادة دراسة كلّ مشاريع القوانين الإصلاحية (الإقتصادية، والمالية، والنقدية، والمصرفية، والإدارية) ضمن إطار نظرة شاملة وعادلة في طروحاتها. شمولية المشاريع تسمح بتقييم دقيق للحلول المتوفّرة ضمن المشاريع المطروحة، والعدالة تسمح بالحفاظ على حقوق المودعين في المصارف.

أربع ضربات تلقّتها الحكومة نتيجة طرحها لثلاثة مشاريع قوانين (مشروع قانون الكابيتال كونترول، مشروع موازنة العام 2024، ومشروع قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي) وخطّة نهوض مالي (إستعادة الإنتظام المالي العام) والتي يُمكن وصفها بأنّها ليست على مستوى التحدّيات القائمة. هذا الفشل في إقناع المُشرّع والخبراء والرّأي العام بفعّالية الطروحات ناتج بالدرجة الأولى عن الإنفراد الحكومي في طرح الحلول والإجتهادات التي قامت بها من دون إشراك أو أخذ رأي المعنيين، مع العلم أنّها – أي الدولة – هي السبب الأساسي في الواقع الذي وصلنا إليه اليوم من باب عجز الموازنات ومستوى الدّين العام الذي وصلنا إليه والذي انسحب على الواقع المصرفي والنقدي.

في 7 آذار من العام 2020، أطلّ رئيس الحكومة السابق ليُعلن للرأي العام اللبناني والعالمي أنّ الحكومة قرّرت التوقّف عن دفع دينها بالعملة الصعبة (سندات اليوروبوندز) واعتبر أن هذا القرار هو قرار تاريخي. وأظهر التّاريخ أنه ونتيجة هذا القرار تمّ هدر أكثر من ثلاثين مليار دولار أميركي من احتياطات المصرف المركزي منها عشرين على الدّعم المباشر "المشؤوم"، وتهاوت الليرة اللبنانية بفعل فقدان هذا الإحتياط 60 مرّة قيمتها ما قبل الأزمة! وحُرمت الحكومة من كلّ مصادر التمويل باستثناء الضّرائب والفواتير والرسوم التي تستوفيها من المواطنين والشركات وبعض المساعدات الأممية. والأهمّ أنّ ودائع الناس التي أقرضتها المصارف إن مباشرة أو غير مباشرة إلى الدّولة أصبحت رهينة الدين العام الذي تقترح الحكومة شطبه!

الدراسة الشاملة لكلّ القوانين الإصلاحية هي أمر ضروري نظرًا لأنّ كلّ مشاريع القوانين المطروحة وعلى رأسها خطّة النهوض المالي، تناست (عمدًا؟!) الدّين العام وشطبته بكلّ بساطة، وصرّحت الحكومة أن اقتراح الشطب هو مطلب صندوق النقد الدولي. إلّا أنّ مصادر غير رسمية في صندوق النّقد أكّدت أنّ صندوق النّقد لم يطلب شطب الدين العام بل جلّ ما طلبه هو احترام قيود الميزانية الحكومية (Government's inter-temporal budget constraint) أي أن يتمّ إعادة هيكلة الدين العام بطريقة تسمح بأن يكون فائض الميزان الأوّلي أعلى من خدمة الدين العام. وبالتالي نستنتج أنّ ما تمّ طرحه في خطّة النهوض الحكومية ما هو إلّا إجتهاد محلّي لا أكثر ولا أقلّ.

إنّ إعادة هيكلة الدّين العام هو في صلب الإصلاح الذي على الحكومة القيام به. وأيّ عملية شطب أو تناسي لهذا الدين على صعيد خطّة النهوض المالي سيؤدّي حكمًا إلى فشل الإصلاحات والذي سينسحب على الاقتصاد والمجتمع من خلال عدّة قنوات.

إعادة الهيكلة الدين العام تفرض التفاوض مع المُقرضين (قبل الأزمة 85% القطاع المصرفي اللبناني و15% خارجي) وهو ما يعني البحث مع هؤلاء في إعادة تنظيم أو تعديل شروط الإصدارات السندية المستحقّة بطريقة تجعل الدين العام أكثر استدامة (عن طريق تقليل حجمه الإجمالي أو تمديد الأجل أو ضبط أسعار الفائدة) وفي نفس الوقت حفظ حقوق المودعين.

إنّ إعادة هيكلة الدّين العام هو في صلب الإصلاح الذي على الحكومة القيام به. 

شطب الديون يحوي في طيّاته تداعيات سلبية هائلة على المدى البعيد، على رأسها فقدان المودعين لكمّ هائل من ثروته وفقدان الإقتصاد لمصدر تمويل كان أساسيًا في العقود الماضية. أضف إلى ذلك فقدان الدولة لمصداقيتها الإئتمانية وضرب الثقة بالقطاع المصرفي لفترة طويلة.

إذن إعادة هيكلة الدين العام هو أمر ضروري إقتصاديًا، وماليًا، واجتماعيًا. إلّا أنّ إعادة الهيكلة لن تكون بالأمر السهل في ظلّ التحديات المالية التي تواجه الحكومة نتيجة المستوى العالي من الدين، و عجز الموازنة وتراجع الاقتصاد، وفقدان الحكومة للسيادة المالية على أراضيها مما زاد من حجم التهريب الجمركي وحجم التهرّب الضريبي إلى مستويات هائلة. أضف إلى هذه التحدّيات الصدمات الخارجية والمُتمثّلة حاليًا بالعدوان الإسرائيلي على لبنان (وقطاع غزّة) والذي يحدّ من قدرة القطاعات الأساسية في الإقتصاد اللبناني (مثل السياحة) على إعطاء زخم للنمو الإقتصادي (عنصر أساسي في النهوض الإقتصادي).

وبالتالي، يتوجّب على الحكومة دعوة المُقرضين (داخليين وخارجيين) إلى مفاوضات بالإشتراك مع صندوق النقد الدولي وذلك بهدف وضع السيناريو الأفضل الذي يكون وقعه على الإطار الإقتصادي والإجتماعي أقل سوءًا. وتتضمّن مفاوضات إعادة الهيكلة إحتمالات عديدة منها إعادة جدولة الدين العام، خفض القيمة الإسمية للدّين العام، خفض أسعار الفائدة على الدين العام لصالح الحكومة...

هذا الأمر يؤدّي إلى حلحلة على صعيد عودة المصارف التي تُعتبر عامود فقري للنموّ الاقتصادي نظرًا لدورها التمويلي للاقتصاد، ويؤدّي إلى وضع رؤية طويلة الأمد للمالية العامة تسمح بعودة الإنتظام المالي في غضون سنوات مشروطة بالطبع بإصلاحات تطال القطاع العام والسيادة المالية للدولة على أراضيها.

بالطبع ومن دون أدنى شكّ هناك مسؤوليات قضائية وجزائية لا يجب (ولا يُمكن) تجاوزها بأيّ شكل من الأشكال خصوصًا أنّ هناك أخطاء تمّ إرتكابها عن قصد. هذا الواقع سيؤدّي إلى تحمّل الأطراف المعنيين خسائر بالإضافة إلى خسائر مُحتملة قد يتكبّدها المودعون.

رفض الحكومة التفاوض يعني بكلّ بساطة ملاحقتها قانونيًا أمام المحاكم الدوّلية وحجز أصولها في الخارج وهو أمر مُمكن قانونًا. إلّا أنّ الإدعاء على المصرف المركزي هو أمر غير مُمكن بحسب سابقة في الولايات المُتحدة الأميركية والتي انتهت بقرار واضح من المحكمة أنّه لا يُمكن الحجز على أموال المصرف المركزي. عمليًا، إصرار الحكومة على شطب الدين العام واستطرادًا الودائع المصرفية، لن يكون سهلًا تمريره في المجلس النيابي خصوصًا أن لا نائب عن الأمّة مُستعدّ للتصويت لصالح هذا الأمر خوفًا من ردّة فعل الناخبين. فهل تُقدم حكومة الرئيس ميقاتي على التفاوض مع حاملي سندات اليوروبوندز؟