عذراً، ما حاجة قتل أطفال غزة؟ نخشى إن قلنا أكثر أن يكون في ما نقول كفراً. أيعقل أن تشهد الأرض المقدّسة كلّ هذا السفك للدماء من دون أن تتزلزل الأرض وتلمع في السماء شهب الغضب الالهي؟ كم هو مؤلم هذا الشعور بالعجز حين تجد أننا لا نملك القدرة على إنقاذ تلك الأرواح، تلك الوجوه التي نراها على الشاشات ونخشى أنّنا سنراها أشلاءً أو سنقرأها أسماء ضمن أسماء من رحلوا.
ترى أين يذهب أطفال غزة بعد موتهم؟ وكيف تقارب عقول من بقي منهم على قيد الحياة مسألة الموت والحياة والمستقبل الذي غالباً ما ينتهي قبل أن يبدأ. كيف شَكْل الجنان بالنسبة إليهم؟ أيديهم الطرية البيضاء التي تكاد تظهر العروق من تحت جلدها، أيعقل أنّها ارتكبت خطايا؟ وهل يحتفون بالجنان فور وصولهم إليها؟ أم أنّها مُجرّد تغيير إقامة بالنسبة إليهم لا أكثر؟ هل أطفال غزة مُذنبون مغفور لهم مثلاً نظراً لما أسلفوا من خطايا؟!
يقولون أنّ الله اختارهم ليكونوا في مكان أفضل. ولكن ألم يكن أفضل لو كانت طفولتهم في أحضان والداتهم ورعاية آبائهم؟ لماذا لا تكون الحياة من حق هؤلاء كغيرهم؟ ما هي الحكمة في أن يُقتل هؤلاء، يذرفون دماً ومن خلفهم يذرف الدمع، أمّا القتلة فيسرحون ويمرحون؟ أين العدالة في ترك الباطل يبطش بأهل الحق؟ أما آن لهذا الامتحان أن ينتهي؟ ألا يحقّ لنا إن فشلنا في هذا الاختبار أن نعيش كما غيرنا؟ ماذا لو أردنا أن نعيش حياة كريمة على هذه الأرض، ألا يحقّ لنا أن نحلم بأهل وبيت ووطن؟
مرعب هذا الإحساس بالعجز، مقلق هو الغد الذي لن تضحك فيه تلك الوجوه الصغيرة
حرب كحرب غزة ينقلب بفعلها الكيان الإنساني ويجد أحدنا نفسه ماثلاً أمام نفسه في امتحان صعب. فإذا مرَّ يوم بلا دمعة عين أو غصة خلال طعام أو شراب، تلوم النفس نفسها كما لو أنّ الخطيئة التي ارتكبتها لا تغتفر، وهي فعلاً كذلك وتأتي بعدها حفنة من الأسئلة، ترى متى انفضَّ المصلّون وأهل الدين عن أهل غزة؟ ماذا تعني الإنسانية وماذا تفعل الجمعيات الإنسانية والمجتمع المدني حيال ما يحصل؟ أين هي تلك الشعارات التي أتخمونا فيها حين كانت تصب في مصالح رعاتهم ومموليهم ولم يعد لهم من صوت يُسمع؟
مرعب هذا الإحساس بالعجز، مقلق هو الغد الذي لن تضحك فيه تلك الوجوه الصغيرة. مفجع هو مشهد الأمهات التي تلطخت أيديها بدماء أولادها. بكاء الآباء، لو تعلمون عن بكاء الرجال في شرقنا. لعنة أطفال غزة ستلاحق جميع من شارك في قتلهم أو بارك أو صمت.
ما حصل في غزة من مجازر لم يحصل بسبب طوفان الأقصى، فاغتصاب فلسطين بدأ منذ تاريخ الثاني من تشرين الثاني 1917، تاريخ ذلك الوعد الذي وقّعه وزير خارجية المملكة المتحدة آنذاك "آرثر بلفور"، والذي عرف ب "وعد بلفور". مائة وستة أعوام مضت على ذلك الاغتصاب الذي لم يكن ليبصر النور لولا دعم رئيس حكومة بريطانيا وقتها "لويد جورج"، ومنذ العام 1948 وها هم الفلسطينيون يتعرضون للمجازر المتكررة، من النكبة إلى النكسة إلى تدمير وتجريف القرى والبلدات والمدن بعد قتل وترويع أهلها. من تقتلهم إسرائيل في غزة اليوم، كانت قد هجرتهم من بلدات أخرى، وسبق أن قتلت أجيال أجدادهم قبلهم، وسبق أن سفكت دماءهم مراراً وتكراراً.
على الأرجح أهل فلسطين كفروا بهذا العالم منذ زمن طويل، ولكنهم بالله يؤمنون.
بقدر ما تؤلم مشاهدة ما يحصل من إجرام بحق المدنيين في غزة، بقدر ما يجرح هذا الصمت أو الحياد العربي مما يحصل. ترى المظاهرات تجوب كبرى المدن الغربية وتلحظ غياب أي تحرك ولو خجول في بعض المدن العربية.
يقف العالم متفرّجاً على ما ترتكبه إسرائيل من مجازر، بعضه يغضب، بعضه يحزن، بعضه يصمت، ولا يمكن تخيّل وجوه من يمكن أن "يفرح" بتلك المشاهد، ولكن هذا هو العالم. على الأرجح أهل فلسطين كفروا بهذا العالم منذ زمن طويل، ولكنهم بالله يؤمنون.
أطفال غزّة سيخبرون الله بكل شيء.