يحاول فريق من العلماء معرفة مقدار المعلومات التي يمكن استخلاصها من الحمض النووي البشري على وجه التحديد...

قد يبدو الأمر وكأنّه فيلم من الخيال العلمي، لكن الحقيقة أنّ الباحثين أصبح باستطاعتهم التوصّل إلى استعادة آثار صغيرة من المواد الوراثية البشرية التي تسمّى الحمض النووي البيئي - أو eDNA - التي نتركها عائمة في الهواء أو الماء، وبالتّالي استخراجها للحصول على معلومات وراثية عن البشرية.

علمياً، كانت هذه التقنية موجودة منذ بعض الوقت، وقد تمّ استخدامها لعدد من الأغراض بما في ذلك اكتشاف الفيروس المسبّب لـ COVID-19 في مياه الصّرف الصحي أو تتبّع الأنواع المهدّدة بالانقراض.

الآن، يحاول فريق من العلماء معرفة مقدار المعلومات التي يمكن استخلاصها من الحمض النووي البشري على وجه التحديد، حسبما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز، حيث قامت بتحليل العيّنات بحثا عن العلامات الجينية المتعلّقة بعلم الأنساب وحتى العرق.

كما هو مفصّل في مجلة Nature Ecology & Evolution، فقد وجد فريق بقيادة عالم وراثة الحياة البريّة في جامعة فلوريدا ديفيد دافي أنّه يمكن تتبّع المعلومات الطبّية والأصول من هذه الآثار الدقيقة للحمض النووي البشري.

ومع ذلك، بقدر ما تعدّ اختبارات الحمض النووي بتفصيل أسلاف الأشخاص الراغبين بمعرفة أصولهم، فإنّ ما تجده الشّركات أكثر إثارة للدهشة ممّا كان متوقّعاً في عدد كبير من الحالات.

في هذا الصدد، ذكرت هيئة الإذاعة البريطانية BBC أنّ عدداً متزايداً من عملاء اختبار النّسب يكتشفون أنّ الأشخاص الذين قاموا بتربيتهم قد لا يكونون آباءهم البيولوجيين أساساً.

نشأت كارا ديرين، مع أب من أصول أفريقية ولطالما اعتقدت أنّها نصف أمريكية من أصل أفريقي. عندما اشترت اختبارات الحمض النووي في المنزل لنفسها ولوالدها في عيد الميلاد لمعرفة المزيد عن ثقافاتهم الأصلية، تلقّت صدمة بنتائجها الخاصة، تبيّن أنّها كانت نصف يهودية أشكنازية، وليس لها أصل أفريقي على الإطلاق وأنّ والدها البيولوجي من عائلة روبنشتاين كانت والدتها قد واعدته لفترة، لذا قامت الفتاة مؤخراً بإضافة اسم عائلة والدها الأصلي إلى اسمها على الرّغم من أنّها لم تلتق أبداً به ولم ترغب عائلته في أيّ علاقة بها.

أثار اكتشاف المرأة أسئلة مهمّة حول العرق والأصل، وهي تسميات وضعها الإنسان، وهي ذاتية وتتغيّر مع مرور الوقت، ولكن مع ذلك لها تأثيرات هائلة على حياتنا.

بشكل عام، تقضي شركات تحديد النسب الجيني مثل "23andMe" و " AncestryDNA" الكثير من الوقت في الاعتراف بالطبيعة المعقّدة للعرق والأصل. ومع ذلك، قال متحدث باسم "23andMe" للـ "بي بي سي" إنّ الشّركة "لا تخلط بين مفاهيم العرق والنّسب الجيني" و "والشركة تعير دائما أهميّة للتمييز بين هذه المفاهيم بوضوح".

أنشأت ديرين منظمة للأشخاص الذين علموا أنّهم عرق مختلف عن العرق الذي نشأوا على الادّعاء به وهي تدعم الآن أشخاصاً مثل كريستين جاكوبسن، التي علمت بشكل قاطع أنّ والديها ليسا دانماركيين عندما أجرت اختبار الحمض النووي الخاص بها في المنزل، إذ علمت جاكوبسن من خلال نتائج الاختبار أنّها أفريقية بنسبة 25 في المائة، على الرّغم من اعتقادها لمعظم حياتها بأنّها دانماركية بالكامل.

إلى جانب تقديم تفاصيل عن الخلفية الجينية للفرد، تسمح المؤسسات المختصّة بهذا المجال أيضاً للمستخدمين بالتواصل بين الأشخاص الذين يتشابهون بالبصمة الجينية والذين استخدموا خدمة هذه الشركات أيضاً.

وقال مارك توماس، أستاذ علم الوراثة التطوّري في كلية لندن الجامعيّة، إنّه ليس من المعجبين بالطريقة التي تسوّق بها هذه الشركات باستخدام مصطلح "العرق" لأنّ "أصلك البيولوجي ليس عرقك - العرق هو فئة محددة اجتماعيا".

قال توماس: "أشعر أنهم يستخدمون الكلمة كناية عن العرق. فالعرق أيضا مبني اجتماعيا، لكن الأفكار حول العرق كانت تعتمد تقليدياً على النّسب. يبدو الأمر غريباً بعض الشيء، فهي ليست فئات ذات مغزى بيولوجي".

لا يزال هناك الكثير الذي يجب أن نتعلّمه جميعاً، بشكل جماعي، عن العرق والأصل حيث تستمرّ هذه المفردات بلعب أدوار هائلة في الطريقة التي نتفاعل بها مع العالم، وكيف تحدّد كيفية تفاعل العالم معنا نتيجة لذلك.

كلّ هذا جعل خبراء الخصوصية قلقين للغاية، خاصّة في السياق الذي تستخدم فيه سلطات إنفاذ القانون بالفعل أدوات الحمض النووي المشبوهة والمثيرة للجدل لتحديد المشتبه بهم.

ديفيد دافي كان مع فريقه يبحثون في الأصل عن أجزاء صغيرة من الحمض النووي للسلاحف البحرية لتتبّع الأمراض التي تؤثّر على أنواع، لكن عند اكتشافهم لكمّيات "مدهشة" من الحمض النووي البشري في تلك السلاحف تغيّر توجّه بحثهم ليأخذ مجرى آخر قد يغيّر نظرة النّاس لأصولهم بشكل كامل ويعيد تحديد الأصول البشرية.

في سلسلة من التجارب، أخذ الباحثون عيّنات من جدول في فلوريدا وقاموا بتحليلها بحثاً عن آثار الحمض النووي، ووجدوا أنّ الحمض النووي البشري أكثر وضوحاً ممّا كان متوقّعاً بما في ذلك المعلومات المتعلّقة بالأصل الجيني، ووفرت عينة واحدة كاملة ما يكفي من المعلومات لإدخالها في قاعدة بيانات الأشخاص المفقودين الفيدرالية في الولايات المتحدة.

يعتقد الخبراء أن أبحاث دافي وفريقه يمكن أن تؤدي إلى مناقشات جديدة حول جمع وتحليل الحمض النووي البشري، إذ قالت آنا لويس، الباحثة في علم الوراثة بجامعة هارفارد، إن هذه التقنية يمكن أن تستخدم يوماً ما لتحديد أقلّيّات عرقيّة معينة وربما اضطهادها، وهذا يعطي أداة جديدة قويّة للسلطات، لذا أعتقد أنّ هناك الكثير من الأسباب الدوليّة للقلق".

بدورهم أجرى المسؤولون الصينيون بالفعل أبحاثا وراثية لدراسة الحمض النووي للأقليّات العرقية في البلاد، مما أثار قلق الخبراء خاصّة وإنّ تحليل آثار الحمض النووي الشمولي يمكن أن يمنح الدول الشمولية المزيد من القوة في هذا المجال.

لحسن الحظّ، فإنّ الآثار التي وجدها دافي تلتقط علامة جينية واحدة فقط في كلّ مرة، في حين أنّ تقنيات إنفاذ القانون الحاليّة تتضمن تحديد 20 علامة جينية لأيّ مشتبه به، كما أنّ معدّل الخطأ في تحديد شظايا الحمض النووي البشري لا يزال أعلى بكثير من التقنيّات التقليدية، ممّا يعني أنّ فرص التكهّنات غير الصحيحة لا تزال عالية.

لكنّ هذه القيود قد لا تهمّ كثيراً عندما يتعلّق الأمر بالشرطة التي تبحث عن طرق جديدة لتحديد المشتبه بهم، في حين أنّ نظم الحماية موضوعة في وجه الباحثين في المؤسسات، بما في ذلك عملية الموافقة ومجالس الأخلاقيات، فإنّ تطبيق القانون يعمل في معظم الأحيان بقيود أقلّ بكثير.

"إنه الغرب المتوحّش تماما وهو مجاني للجميع" ، تقول إيرين ميرفي ، أستاذة القانون في كلية الحقوق بجامعة نيويورك. "فمن الواضح أن الشرطة قادرة أن تفعل ما تريد ما لم يتم حظرها صراحة".