اضطرّت أكثريّة المؤسّسات الاقتصادية، ومنها بشكل خاص المصرفية، في سنوات الأزمة لعدم تطبيق معايير المحاسبة الدولية. ولا سيّما تلك المتعلّقة بـ "تثقيل المخاطر"، و"التضخّم المفرط". 

أن تحقّق مصارف لبنانية أرباحاً تشغيلية في العام الرّابع على الانهيار، فمسألة تستحقّ التوقّف عندها. وبغضّ النّظر عن حجم الأرباح، وكيفيّة التصرّف بها، فهي تطرح سؤالاً أساسياً عن كيفية تحقُقها. خصوصاً أنّ المصارف "متوقّفة عن الدّفع"، بعلم الجميع. وأكثر من ثلثي أصولها محجوزة على شكل ودائع لدى مصرف لبنان، ومعرّضة للشطب في أي لحظة.

اضطرّت أكثريّة المؤسّسات الاقتصادية، ومنها بشكل خاص المصرفية، في سنوات الأزمة لعدم تطبيق معايير المحاسبة الدولية. ولا سيّما تلك المتعلّقة بـ "تثقيل المخاطر"، و"التضخّم المفرط". ساعدها على ذلك مجموعة من العناصر، ومنها بشكل أساسي تعدّد أسعار الصّرف، و"ليلرة" تسديد الودائع، وإصدار المصرف المركزي تعاميم تتيح تضخيم الأصول.

بعض الأرباح حقيقية

على الرّغم من هذا الواقع فإنّ بعض الأرباح المحقّقة، صحيحة من النّاحية المحاسبية. وهي تعود بشكل أساسي إلى دولرة الاقتصاد، وعودة المصارف إلى فتح حسابات بـ "الفريش دولار". حيث يُقدّر أن يكون هناك حوالي 200 ألف حساب تضمّ مبالغ لا تقلّ عن ملياري دولار. وهو ما يتيح رفع الأرباح التشغيلية، وتقييمها بالدّولار ومن ثمّ تحويلها إلى الليرة على سعر صرف السّوق أو سعر المنصّة بفارق يتراوح بين 3 و4 في المئة. يضاف إلى "نعمة" الودائع الطازجة، وصمودها لوقت أطول في النّظام المصرفي، استمرار تراجع الكلفة التشغيلية للمصارف اللبنانية. فمن جهة انخفض عدد الفروع من 1058 فرع في كانون الأول 2019، إلى 790 فرعاً لغاية أيار 2023. ومن الجهة الثانية، تراجع عدد الموظّفين في القطاع من 24704 موظفاً في كانون الأول 2019، إلى 15537 حتّى آذار 2023. وعليه خرج حوالي 9167 موظّفاً بـ "بروتوكلات" دفعت بالليرة اللبنانية. والبقية المستمرة من الكادر الوظيفي تتقاضى بمعظمها، رواتبها بالعملة الوطنية. وتعمد المصارف إلى وقف اشتراكات الكهرباء، وقطعها عن صرّافاتها الآلية خارج دوامات العمل الرسمية وفي أيام الأعياد. كما سمح مصرف لبنان في تعاميمه بتقييم المصارف لأصولها الثّابتة وتسعيرها بسعر صرف السوق. وعليه فإنّ الزيادة في الإيرادات من الحسابات الطازجة تحديداً والعمولات والوفر المحقّق في الأكلاف ظهراً على شكل أرباح.

أرباح من دون توزيع "الأنصبة"

يضاف إلى الأرباح الصحيحة، اعتماد طرق محاسبية استطاعت المصارف من خلالها نفخ أصولها. "كأن تحوّل على سبيل الذكر لا الحصر أموال القروض الدولارية المسدّدة بـ "اللولار"، أو الليرة بقيمتها إلى الليرة بقيمتها السوقية"، يقول مصدر مصرفي. وعلى الرّغم من عجز المصارف عن توزيع انصبة الأرباح نقداً على مساهميها، إلّا أنّها تسجّل زيادة دفترية، وتساهم بتعزيز رساميل المصارف. وبحسب المصدر فإنّ "القرار بعدم إمكانية سحب الأرباح لا يعود إلى نقص السيولة فحسب، إنّما أيضا لعدم إثارة المزيد من نقمة المودعين على المصارف. إذ كيف لمؤسسات متوقّفة عن الدّفع ان توزّع أنصبة أرباح! ذلك على الرّغم من أنّ المصارف تجاهر بإعادة أموال المودعين بحسب تعاميم مصرف لبنان ومنها التعميم 151، والتعميم 158 الذي يضمن إعادة بين 300 و400 دولار نقداً للمودعين بشكل شهري. والمبالغ الأخيرة يرجح أنّها تُسدّد من الأرباح المحققة.

المشكلة أبعد من تحقيق الأرباح

بغضّ النظر إن حقّقت المصارف أرباحاً تشغيلية أو لم تحقّق، فإنّ القطبة المخفية تتعلّق بكيفية معالجة "شلّال الدّين"، يقول المصدر. أو ما يعني كيفية توزيع الخسائر بين المصارف، والمركزي، والدّولة والمودعين. وبمعنى أوضح كيف ستعيد المصارف الودائع الموظّفة في مصرف لبنان للمودعين والتي تبلغ أكثر من 72 مليار دولار. وفي حال تمّ المضي قدماً بـ "شطب" هذه الودائع في عملية إعادة الهيكلة، فإنّ كلّ الأرباح لن تنفع بشيء وستعرّض أكثرية المصارف إلى الإفلاس. وفي حال العكس، أي تأجيل دفعها وربطها بالأرباح المحقّقة من الصندوق الائتماني الذي توضع فيه أصول الدولة، فإنّ النتائج لن تظهر إلّا بعد عدد طويل من السنوات، هذا إن ظهرت، وستسمرّ المصارف على الحالة التي هي عليها اليوم.

أمام هذا الواقع أظهرت الميزانية العمومية المجمّعة للمصارف التجارية، انخفاض إجمالي أصولها بنسبة 31.57 في المئة لتصل إلى 117.18 مليار دولار بحلول تموز 2023. وسط اعتماد مصرف لبنان لسعر صرف جديد، 15000 ليرة لبنانية لكلّ دولار. وقد شكّلت الودائع لدى البنك المركزي نسبة مرتفعة من إجمالي الأصول بلغت 72.46 في المئة، وانخفضت سنوياً بنسبة 25.52 في المئة لتستقرّ عند 84.91 مليار دولار في تموز2023. وكان من اللافت بحسب أرقام المصارف ارتفاع نسبة الدولرة لودائع القطاع الخاص من 76.58 في المئة في تموز 2022 إلى 96.19 في تموز 2023. ذلك على الرّغم من أنّ أغلبية المصارف اتخذت قراراً برفض تحويل الودائع من الليرة إلى الدولار خلال العامين المنصرمين، وكانت تشترط تجميد الحساب المحوّل لفترة تتراوح بين 6 و12 شهراً قبل بدء استفادة المودع من التعميم 151 تحديداً. وتأتي الدولرة المرتفعة في ظل تيقّن معظم المودعين أنّ الودائع المحوّلة بعد العام 2019 من الليرة إلى الدولار ستعاد إلى عملتها الرئيسية في خطّة انتظام العمل المالي وستشطب الفوائد. فلماذا الاستمرار بهذه العملية، وهل الهدف تخليص الودائع وسحبها جمعياً ولاسيما منها الصغيرة، قبل البدء بتنفيذ الخطّة التي قد تتطلّب سنوات طويلة؟!

كما لا يعتبر الوزن الزائد دليل صحّة عند الأفراد، فإنّ أرباح المصارف لا تدلّ على سلامة القطاع المصرفي. فتراكم "دهون" العمليات المحاسبية المضرّة، هو تمويه على أنّ القطاع بخير من الخارج، في حين أنّ "الأمراض" تفتك به من الدّاخل.