لبنان ليس بالدوّلة الأولى ولا الأخيرة التي تتخلّف عن سداد ديونها، إلّا أنّ المُلفت في الحالة اللبنانية أنّ الدّين العام، بقسم كبير، هو دين داخلي من أموال المودعين.

لم يعد خافيًا على أحد أنّ إسترداد الودائع مُتعلّق بشكلٍ مباشر بمصير الدّين العام وبإقتراح الحكومة شطب هذا الأخير. تقرير ألفاريز آند مارسال أشار بوضوح أنّ حجم التحويلات بالدولار الأميركي من مصرف لبنان إلى القطاع العام بلغ 48 مليار دولار في الفترة التي امتدّت من العام 2010 إلى العام 2021. وبما أنّ 79 مليار دولار أميركي من أموال المودعين كانت مودعة في المصرف المركزي من قبل المصارف، لذا يُمكن الاستنتاج أن هذه الأموال هي من أموال المودعين. وبالتّالي أيّ عملية شطب للدّين العام سينعكس حكمًا على الودائع التي تبلغ حتى تاريخه، 92 مليار دولار أميركي، والتي لا تكفي أصول المصارف وأصول مصرف لبنان لسدّها.

وضع الإقتصاد لا يسمح للدّولة بتحقيق مردود عليه (من خلال الضرائب والرسوم) يسمح بتغطية إنفاقها الجاري، وفي نفس الوقت سدّ دينها لمصرف لبنان والمصارف التجارية – أي أموال المودعين. بمعنى أخر وبلغة إقتصادية، لا تستطيع الحكومة تحمّل هذا الدين (Unsustainable debt). من هنا يأتي إقتراح صندوق النّقد الدّولي بشطب الدّين العام (أي شطب الودائع) مُعللًا هذا الإقتراح بحجّتين:

أولًا – لا إمكانية إقتصادية ومالية لسدّ الدّين العام الذي سيبقى عقبة أساسية أمام أيّ نمو إقتصادي مُستقبلي؛

ثانيًا – الدّين العام ناتج عن فساد وسوء إدارة وبالتّالي، لا يُمكن تحميله للأجيال المُستقبلية.

بالطبع اقتنع عددٌ من المسؤولين بهذا الأمر وأصبحوا من المدافعين عن هذه الفكرة، في حين أنّ البعض الآخر لا يجرؤ على إعلان موقف داعم لهذا الإجراء خوفًا من ردّة فعل القاعدة الشعبية. من هنا نرى أنّ التصريحات السياسية في ما يخصّ الملفّ الإقتصادي والمالي، وبالتحديد الإتّفاق مع صندوق النّقد الدولي الذي عاد إلى الواجهة بقوّة مع إستحالة إقراض الدولة قرشًا واحدًا من خارج إطار هذا الإتفاق، أصبحت هذه التصريحات تتسابق في التمسّك بأموال الودعين وإستعادتها. وهنا يُطرح السّؤال عمّا إذا كان هناك من قدرة لهؤلاء على تغيير المعادلة التي يفرضها صندوق النّقد الدّولي أم هي مناورات إعلامية فقط لتفادي غضب المودعين عند تنفيذ الخطة؟ الأكيد أن لا أحد من المسؤولين الذين يمتلكون قاعدة شعبية قادر على المدافعة عن شطب الودائع!

إذا ما أخذنا صورة عن واقع المالية العامّة الآن وإمكانياتها بالعملة الصعبة، نرى أنّ الخزينة العامّة لم تعد تملك أكثر من مئة مليون دولار أميركي (حقوق السّحب الخاصّة) أضف إلى ذلك توقّف مصرف لبنان عن تزويدها بحاجاتها من العملة الصعبة ممّا يعني أنّ الحكومة غير قادرة حتّى على تأمين إنفاقها التشغيلي! فكيف لها أن تسدّ دينها العام؟

تأمين مداخيل للخزينة العامّة يتطلّب نشاط إقتصادي رسمي قويّ أو ثروات طبيعية وهو ما يفتقده لبنان حاليًا. أصعب من ذلك، ربط المجتمع الدولي مُساعداته للبنان (قروض، هبات أو إستثمارات) بإصلاحات إقتصادية ومالية ونقدية تحت راية صندوق النّقد الدولي. حتّى أن الثروة الغازية التي يتمّ التنقيب عنها حاليًا، لن تُبصر النّور من دون إصلاحات طلبها صندوق النّقد الدولي. وهنا تظهر المُشكلة من باب أنّ القوى السياسية لا تستطيع أو لا تريد (حفاظًا على مكتسباتها) القيام بإصلاحات وبالتّالي فإنّ مُشكلة تمويل الحكومة مطروحة بقوّة إبتداءًا من الشّهر المقبل. هذا الأمر يطرح سيناريوهين: الأول المماطلة مع تفشّي الإقتصاد غير الرسمي على حساب عزل لبنان عن النّظام المالي العالمي، والثاني القيام بإصلاحات وهنا ستواجه حكمًا مُشكلة الدّين العام وإستطرادًا ودائع المودعين في المصارف اللبنانية.

لبنان ليس بالدوّلة الأولى ولا الأخيرة التي تتخلّف عن سداد ديونها، إلّا أنّ المُلفت في الحالة اللبنانية أنّ الدّين العام، بقسم كبير، هو دين داخلي من أموال المودعين. وبالتّالي هناك إيجابيات وسلبيات لشطب الدين العام اللبناني: من الإيجابيات، يُمكن القول أنّ العودة الطبيعية إلى الإنتظام المالي سيكون أسرع مع إعفاء الأجيال المُستقبلية من دفع كلفة فساد هذا الجيل. أمّا السلبيات فهي كثيرة وعلى رأسها ضرب الثقة بالدّولة اللبنانية، إذ أنّ شطب الديون عادة يكون طوعي من قبل المُقرض ولا يكون من قبل المُقترض وهو ما يعني أنّ الحكومة ستواجه صعوبات كثيرة قبل استعادة ثقة الأسواق المالية حتّى ولو حصلت الحكومة على ثقة صندوق النقد الدول،ي وهو ما سيجعلها تعتمد بشكل شبه حصري على قروض صندوق النقد الدولي وقروض الدول الأخرى. أيضًا من سلبيّات شطب الديون (واستطرادًا الودائع) فقدان ثقة المودعين بالقطاع المصرفي وهو ما سيكون له تداعياته على الإقتصاد من باب الإستثمار، إذ سيكون هناك رفض لإيداع أموال في المصارف اللبنانية لسنين طويلة، ناهيك عن التداعيات الإجتماعية الكارثية التي ستطال عددًا من المودعين الذين لا يمتلكون أية مداخيل خارج إطار ودائعهم!

من المُتعارف عليه عالميًا أن لا قطاع مصرفي في العالم قادر على سدّ ودائع كلّ مودعيه في نفس الوقت، والسبب يعود إلى الـ Credit Multiplier. هذا الأمر يعني أن لا أموال نقدية كافية لسدّ الودائع التي قد تتراكم رقميًا من دون الحاجة إلى طبع العملة أو إمتلاكها (Physically). وبالتّالي فإنّ المصارف تعمل بحسب مبدأ الثقة الذي ينصّ على أنّ المودع قادر على سحب الأموال التي يحتاجها ساعة يشاء. وهنا يكّمن السرّ، إذ أنّ المودع سيتوقّف عن المطالبة بسحب كلّ وديعته في حال كان واثقًا أنّه يستطيع سحب ما يحتاجه في أيّ وقتٍ.

شطب الودائع سيكون له تداعيات إجتماعية كارثية كبيرة تفوق التداعيات الإقتصادية

إستعادة الثقة ليست بأمر سهل! فعِلم المال يُعرّفُها على أنّها إلتزام جدّي وفعّلي من قبل اللاعبين الإقتصاديين والدوّلة على الإلتزام بالقوانين المرعية الإجراء. وبالتالي فإنّ أولى الخطوات الواجب القيام بها هي الإلتزام بالقوانين وعلى رأسها محاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين وإقرار القوانين المطلوبة من "دون شطب الدين العام" الذي يُمكن التفاوض مع المُقرضين (المصارف ومصرف لبنان) على سدّه على فترة طويلة بفائدة تُقارب الصفر، بحكم أنّ المودع الذي قضى عمّره في تجميع وديعته يُفضّل إستعادتها من دون فوائد على أن يتمّ شطبها بالكامل. وممّا يزيد من ثقتنا بهكذا حلّ هو إمتلاك لبنان لثروة غازية ستُساعد حكماً من خلال عائدات الإستثمارات للصندوق السيادي بتسريع عملية سدّ الدين. لكن كلّ هذا يحتاج إلى جرعة ثقة ومسؤولية من قبل السلطات الرسمية التي تتخبّط اليوم في ما بينها لإنتخاب رئيس للجمهورية مع ما يواكب هذا الأمر من فراغ على كلّ مستويات الإدارة. الجدير ذكره أنّه في ظلّ هذا الحلّ، يتمّ الأخذ بعين الإعتبار الإحتياجات الخاصّة لقسم من المودعين الذين لا يمتلكون مداخيل غير ودائعهم.

من هذا المُنطلق، نؤكّد أنّ شطب الودائع سيكون له تداعيات إجتماعية كارثية كبيرة تفوق التداعيات الإقتصادية، وأنّ المُشكلة الإقتصادية القائمة لا يُمكن حلّها بإجراءات نقدية مثل تحرير سعر الصرف أو شطب الودائع أو غيرها. المُشكلة هي سياسية بإمتياز بحكم أنّ السلطة السياسية هي من يمتلك حصرية القرار الاقتصادي، وبالتّالي يتوجّب حلّ المُشكلة السياسية قبل التوجّه إلى حلّ مُشكلة الإقتصاد. والأهمّ لا يجب أخذ مسألة المودعين وإستعادة ودائعهم كذريعة لزيادة المشاكل السياسية التي تُعطّل كيان الدوّلة.