سطوة الذكاء الاصطناعي على حياتنا اليومية تتعاظم. والأسئلة حيال قدرة امتلاكه لحيّز من الوعي - والمآلات المحتملة لذلك - تَكثُر هي الأخرى. من وحي تلك الأسئلة، صدر حديثاً كتاب للأكاديمية البريطانية، الدكتورة إيف بول، بعنوان "أرواح الإنسان الآلي". الكاتبة تذهب إلى القول إنّ جوهر الوصول إلى ذكاء اصطناعي أخلاقي يكمن في عمق أعماق طبيعتنا البشرية. بعبارات أخرى، يبقى البشر المنطلق والمركز.

في سعينا الدؤوب نحو الكمال، وفق بول، يمعن البشر بتجريد نماذج الذكاء الاصطناعي الأكثر تطوّراً من "الشيفرة غير المرغوب فيها"، وقوامها: العواطف، الإرادة الحرّة والشعور بوجود هدف منشود. وتُجادل بأنّ ما يبدو غير ضروري ومنقوصٍ من منظار آلي إنّما هو محوري لازدهار الحياة البشرية.

بيد أنّ الباب الأبرز الذي طرقته بول في معرض كتابها هو الجبهة "المثيرة والمعقّدة" من التقاطُعات بين الروبوتيات والوعي. وهي جبهة ما برحت مدار بحثٍ وتكهّنات علمية مكثّفة. فالوعي، كما نعرف مبدئياً، هو عصارة نتاج أدمغتنا في مروحة من الآليات، وعلى رأسها: الإدراك الذاتي، القدرة على الاستيعاب وتجربة المشاعر. وبالتالي، من شأن منح الروبوتات وعياً ما أن يزوّدها ليس فقط بالقدرة على إدراك واقعها ومحيطها وإنّما إطلاق أحكام ذاتيّة وربّما اختبار المشاعر وفهم الذات.

لكن، هنا بالتحديد، يكمن بيت القصيد. إذ يجدر بنا أولاً سبر أغوار الوعي البشري قبل التفكير بإعادة نسخه "آلياً". قبل 25 عاماً، نشأ رهان بين الفيلسوف الأسترالي، ديفيد شالمرز، والمتخصّص في علوم الأعصاب الألماني – الأميركي، كريستوف كوش. الأخير أطلق يومها، بما يشبه التنبّؤ، توقّعاً بأن يصل العِلم - بحلول العام 2023 - إلى فهم تقني لحالة الوعي البشري وعلاقته بالدماغ بواسطة أنماط تفاعل الخلايا العصبية.

شالمرز أصغى مشكّكاً. فقد دأب على تقسيم الوعي إلى مشاكل "سهلة" وأخرى "شائكة". الأولى واضحة التّعريف مثل صَهر المعلومات في أنظمة معرفية وصناعة القرار والتعبير عن الآراء. أمّا الثانية فتشمل الأسئلة ذات الطّابع الفلسفي، على غرار كيفيّة تحويل الدماغ للموجات الكهرومغناطيسية – وتالياً التفاعلات ذات الصلة داخل العين - إلى صوَر جليّة المعالم. كوش، بالمقابل، اعتبر أنّ الوعي ينبثق من منطقة ساخنة ما في القشرية الخلفية (Posterior Cortical Hot Zone). وهو ما يُشار إليه بنظرية تكامُل المعلومات (Integrated Information Theory) التي تحدّد ترميز الأشياء التي نختبرها كونها سمات رئيسية للنشاط الواعي.

سنوات مرّت ليلتقي الرجلان مجدّداً هذا الصيف على منبر المؤتمر السّنوي لرابطة الدراسة العلمية للوعي (Association for the Scientific Study of Consciousness) في نيويورك. ولم يكن على كوش سوى الاعتراف بأن ليس ثمّة (بَعد) ما يدلّل بوضوح كافٍ على دور الخلايا العصبية في كشف أسرار الوعي والآليات النيورولوجية الكامنة خلف تَشكُّله.

شالمرز المشكّك كسب الرهان، ولا إجابات حاسمة حتّى اللحظة. لكن تجارب كثيرة تسعى خلفها. فقد توصّل فريق بحثي مشترك من الجامعة العبرية وجامعة كاليفورنيا - بيركلي إلى اكتشاف نشاط دماغي متواصل في المنطقة القذالية الصدغية (Occipital Lobe) داخل القشرة البصرية (Visual Cortex)، في الجهة الخلفية من الدماغ. وهو ما جعل الباحثين يظنّون أنّهم حدّدوا منطقة دماغية مخصّصة للتحكّم بالإدراك الواعي.

في البحث الذي نُشرت نتائجه في مجلة Cell Reports  في تمّوز الماضي، استعان الفريق بمصابين بداء الصرع. كان يُفترض خضوع هؤلاء أصلاً لزراعة أقطاب كهربائية (Electrodes) داخل الجمجمة. والسبب هو سماح تلك الأقطاب بإجراء قياس أكثر تكاملاً للنشاط الدماغي مع مرور الوقت، ما يؤدّي إلى تراجُع التخمينات مقارنةً بتقنيّات أخرى تُجري مسحاً خارجياً للدماغ. والحال أنّ النشاط تراجع بواقع 10 إلى 20% عن مستواه الطبيعي بُعيد تلقّي تحفيز بصري أصلي. في حين لم يشهد نمط النّشاط أيّ تغيّر أثناء رؤية الحافز، في تعارُض مع ما يحصل في مناطق دماغية أخرى.

وفي مكان آخر، تمكّن باحثون من جامعة كولومبيا (3) مؤخّراً من حلّ لغز "الوعي الخفيّ" (Hidden Consciousness). وهي حالة محيّرة تُعرَف أيضاً بالتفكّك الحركي المعرفي (Cognitive Motor Dissociation)، ويظهر فيها مرضى إصابات الدماغ في غيبوبة رغم وجود بعض الوعي لديهم. الدراسة ارتكزت إلى تجربة سابقة بيّنت إمكانية استخدام الموجات الدماغية الدقيقة للتنبّؤ بالوعي الخفي، وقد تساهِم في دعم تجارب سريرية مستقبلية حول استعادة كلّيّة أو جزئية للوعي.

كذلك ثمّة دراسات تعمد إلى تعريض القوارض للمهلوِسات – التي تؤثّر بدورها على حالة الوعي - ومراقبة تأثيرها على خلايا الأدمغة العصبية. فقد لفتت دراسة حديثة نُشرت في دورية Communications Biology  إلى رابط محتمل بين الوعي وديناميات التفاعل الجماعي لنظام النيورونات الدماغية. النتائج هذه ليست راهناً قابلة للتعميم البشري، لكنها منطلَق محتمَل لإخضاع الأدمغة البشرية لدراسات مشابهة لاحقاً.

لِنعُد إلى السيّدين كوش وشالمرز. الأوّل جدّد الرهان ذاته لعام 2048. وإلى حينه، التجارب ستَكثُر والأسئلة أيضاً. لكن نتمهّل قليلاً ونستمع إلى طبيب التخدير الأميركي، ستيوارت هامروف، وعالِم الفيزياء والرياضيات البريطاني، روجر بنروز. الرجلان، إذ يصفان الدماغ بكمبيوتر بيولوجي والوعي بنظام برمجته الخاضع لقواعد ميكانيكا الكمّ، يقولان: "جذور الوعي تعكس مكاننا وطبيعة وجودنا في هذا الكون. هل تطوَّر وعيُنا من عمليات حسابية معقّدة بين خلايا الدماغ العصبية، كما يعتقد العِلم، أم أنّه - منذ نشأة الكون - وُجِد ليبقى، بطريقة ما، وفق المقاربات الروحانية؟". تفسيران يكمّل أحدهما الآخر، على الأرجح.