أشهر ثلاثة مرّت على الفرصة الثانية التي أعطتها "مجوعة العمل المالي" لتصحيح الوضع المالي والنّقدي في لبنان من دون إحراز أيّ تقدّم يذكر

يدور لبنان في دوّامة الاقتصاد النّقدي المفرغة، مُغمضاً عينيه عمداً عن المخارج الآخذة بالانحسار. الخطأ المقصود بترك البلد مرتعاً لتبييض الأموال، والتّهرّب الضريبي، والتهريب الجمركي والتعامل بالكاش من دون حسيب أو رقيب.. سيجرّ على الاقتصاد الويلات. فالنّجاة من قطوع إدراج البلد على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي، مؤخّراً، لا يعني بطبيعة الحال أنّ الخلاص نهائي. بل العكس فنهاية العام "وراء الباب"، كما يقال، ولن تطول المدّة ليقع لبنان في شباك الدول المدرجة على لائحة تبييض الأموال، إذا ما استمرّ الوضع على هذا المنوال.

أشهر ثلاثة مرّت على الفرصة الثانية التي أعطتها "مجوعة العمل المالي" لتصحيح الوضع المالي والنّقدي في لبنان من دون إحراز أيّ تقدّم يذكر. بل على العكس فإنّ المراجعة في أرقام المصرف المركزي التي فرضها التسلّم والتسليم بين الحاكم السابق ونائبه الأول، بيّنت أنّ موجودات المصارف لديه بالدّولار النّقدي تعادل 8 ملايين دولار فقط. ومن المرجّح أن يكون هذا المبلغ عائد لامتثال المصارف الخجول بتطبيق التعميم 165، الذي يلزم المصارف بفتح حسابات جديدة لدى المركزي مخصّصة لإصدار البطاقات المصرفية والشيكات بالدولار النقدي. وعليه، "إذا كانت هذه الحسابات مصدرها الامتثال بأحكام التّعميم 165، فهي متواضعة جدّاً، ولا تبشّر بالخير، لأنّها دلالة على أنّ منسوب الـ "لا ثقة" بالقطاع المصرفي مازال عالياً جداً"، يقول خبير المخاطر المصرفية د. محمد فحيلي. "وعلى المركزي إطلاق عجلة ترميم الثّقة قبل كلّ شيء. وفي حال قارنّا ما في حساب المصارف في المركزي من دولارات نقدية، مع حجم الكاش الموجود في السوق، والمقدّر بـ 6 مليار دولار (شخصياً أعتقد أنّه يقارب 10 مليارات)، يتبيّن أنّ التعميم لم يحدّ من تفشّي الاقتصاد النّقدي، ولم يقلّص من مخاطره، وأبرزُها: إدراج لبنان من جديد على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي في التقييم القادم".

الثّقة أوّلاً

التعميم 165 على أهمّيّته "يؤسس ويؤمّن الأرضية الإجرائية، وليس بالضرورة القانونية، لإعادة العمل بوسائل الدّفع المتاحة من خلال القطاع المصرفي"، برأي فحيلي. "وتطبيق التعميم يخفّف حكماً من الاعتماد على الأوراق النقدية في التداول لتسديد فواتير الاستهلاك للأفراد، والمصاريف التشغيلية للمؤسسات". إلّا أنّ القرار في نهاية المطاف بالاستفادة ممّا يوفّره التعميم من عدمه، يعود للمودع فقط. فهو من يقرّر إن كان من مصلحته استصدار بطاقة دفع الكترونية، أو سحب شيكات بالدّولار النقدي من حساباته "الفريش" المكوّنة بعد العام 2019. وبالتّالي فإنّ الممرّ الإلزامي للنّجاح بتطبيق التعميم والخروج تدريجياً من الاقتصاد النّقدي هو استعادة الثّقة بالقطاع المصرفي، "وهذا حالياً غير متوفّر"، يؤكّد فحيلي.

"تنفيخ" المودعين على "لبن" التعميم 165، يعود إلى "اكتوائهم" بـ "حليب" اللولار. فذات صبيحة من خريف العام 2019 استيقظوا على تبخّر دولاراتهم النّقديّة من حساباتهم البنكية، وتحوّلها في الأيام اللاحقة إلى دولار محلّي. ففقدت شيكاتهم قيمتها، ولم تعد بطاقاتهم المصرفية مقبولة في مختلف نقاط البيع، حتّى أنّ الصرافات الآلية للمصارف الأم، لفظتها ولم تعد تعترف بها، فكيف لهم أن يثقوا بأنّ الأمر لن يتكرر ثانية، وأنّ دولاراتهم النّقدية اليوم ستتحوّل غداً إلى لولار رقم 2. هذه الإشكالية التي لا تحلّ إلّا بإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وإقرار القوانين والتشريعات النّقدية، فوّتت على لبنان فرصة الاستفادة من تعميم يشجّع على التعامل الالكتروني ويخفّف من الضغط الذي يخلقه الاقتصاد النقدي. وبحسب فحيلي فإنّ "تطبيق التعميم 165 يتيح للأفراد التخفيف من اللجوء إلى الكاش. وللمصارف تحصيل العمولات. وللمركزي، تضييق المساحة على المضاربين، والحدّ من الضّغوط التضخّمية".

إشكاليّات تطبيق التعميم 165

أمام ما تقدم يتبيّن أنّ هناك مجموعة واسعة من الأسباب المباشرة وغير المباشرة التي تحول دون تطبيق التعميم بفعالية. وتباعاً، تحقيق أهدافه المعلنة بتخفيف الاعتماد على الأوراق النّقدية بالتداول، والتشجيع على العودة إلى وسائل الدّفع المتاحة من خلال القطاع المصرفي. وأهمّ هذه العوائق حسب فحيلي، هي:

- يعتبر الاستحصال على دفتر الشيكات والبطاقات المصرفية وتحديداً البطاقات الدائنة منها credit card، اختياري بالنّسبة للمودع. وهو ليس مضطراً للالتزام بها حتّى ولو فتح حسابه تحت أحكام التعميم 165 عوضاً عن التعميم 150.

- بإمكان المصارف التهرّب من التصريح عن حجم الودائع بالدولار النقدي بشكل تلقائي في ظلّ غياب آليات الرّقابة الفعّالة.

- أغلب الظن أنّ الهدف من التعميم 165 لم يكن خدمة الاقتصاد، بقدر إرضاء فريق عمل هيئة التحقيق الخاصة في سياق الدفاع عن لبنان أمام مجموعة العمل المالية MENA-FATF من أجل تفادي وضع لبنان على اللائحة الرمادية أو حتّى السوداء لتبييض الأموال في أيار. خصوصاً بعد تصريح البنك الدولي عن أنّ لبنان جنّة لتبييض الأموال بفضل منصّة صيرفة.

- احتمال رفض الدائنين تسديد المدينين بواسطة الشيك المصرفي أو حتى البطاقات المصرفية، ذلك أنّ التعميم ينطوي على ثغرة تتمثّل في السماح للشيك المصرفي بتسديد الالتزامات. ولهذا السبب لن تكون المصارف متحمّسة للامتثال لأحكامه.

فرصة وراء الأخرى يفوّتها لبنان للحدّ من توسّع الاقتصاد النقدي ووضع الضوابط التي تعيد الثّقة بالاقتصاد

بعض الإيجابيّات

في ظلّ هذه العتمة الدامسة، أنار حاكم المصرف المركزي بالإنابة وسيم منصوري، مع نوابه الثلاثة شمعة من خلال إيقاف العمل بمنصّة صيرفة على نطاق واسع. فباستثناء تحويل رواتب موظّفي القطاع العام من الليرة إلى الدولار، وبمبلغ يناهز 82،3 مليون دولار استثنائياً هذا الشهر، فإنّ كلّ العمليات الخاصّة قد جرى تجميدها. فلم يعد مسموحاً الإتيان بحقائب الليرة المجهولة المصدر ووضعها في "غسّالة" صيرفة لتخرج من الجهة الأخرى دولارات نظيفة لا شائبة عليها، من الممكن وضعها في الحسابات البنكية النقدية أو تحويلها إلى الخارج. ومع توقّف العمل بصيرفة يكون لبنان قد قطع شوطاً صغيراً في مكافحة الاقتصاد النّقدي ليبقى شقّ كبير يتعلّق بالتداولات النقدية، ومكافحة التهرّب الضريبي، والاقتصاد غير الشّرعي الذي يناهز حجمه نصف حجم الاقتصاد الشّرعي بحسب أرقام البنك الدولي.

فرصة وراء الأخرى يفوّتها لبنان للحدّ من توسّع الاقتصاد النقدي ووضع الضوابط التي تعيد الثّقة بالاقتصاد. فهل ينجح في استغلال الوقت المتبقّي من فترة السماح التي أعطتها مجموعة العمل المالي لمكافحة تغلغل الاقتصاد النّقدي، أم أنّ اللائحة الرمادية ستكون بالانتظار قرابة منتصف العام 2024؟ غدا لناظرة قريب.. وقريب جداً.