تستحقّ الأرقام المنشورة على مواقع المؤسسات الدولية التوقّف عندها مليّاً، ليس بالنّظر إلى حجمها الكبير فحسب، إنّما لعدم تأثيرها في خفض معدّلات الفقر. ففي غضون السّنوات القليلة الماضية تلقى 1.8 مليون لبناني مساعدات ماليّة وغذائية من برنامج الغذاء العالمي.

غلّفت المساعدات الإنسانية الفقر في لبنان بقشرة هشّة من الاكتفاء غير المستدام. غلاف برّد سخونة الانهيار الواقع على رؤوس المغبونين. حمى المنظومة من صولات التمرّد وجولات الاحتجاج. ولم يؤدِّ إلى التخفيف من حدّة العوز.

تستحقّ الأرقام المنشورة على مواقع المؤسسات الدولية التوقّف عندها مليّاً، ليس بالنّظر إلى حجمها الكبير فحسب، إنّما لعدم تأثيرها في خفض معدّلات الفقر. ففي غضون السّنوات القليلة الماضية تلقى 1.8 مليون لبناني مساعدات ماليّة وغذائية من برنامج الغذاء العالمي. وقُدِّرت التحويلات المالية بـ 28 مليون دولار أميركي. ومع هذا يعاني نحو نصف الشعب اللبناني من انعدام الأمن الغذائي، ويقع 88 في المئة من اللاجئين تحت خطّ الفقر المدقع. في المقابل أعلنت اليونيسف إنّها أنفقت مع شركائها الدوليين، أكثر من 70 مليون دولار أميركي خلال العام الدراسي 2022-2023 لدعم التعليم والمدارس الحكوميّة بشكلٍ نقدي. ومع هذا بقي ثلث تلامذة لبنان من دون تعليم. هذان المثلان يشكلان غيض من فيض المساعدات التي يقدّمها البنك الدولي والاتحاد الاوروبي والمنظمات الدولية الرسمية والخاصة على غرار USAID ومنظمات المجتمع المدني التي تلعب دور الوسيط بين الممولين والمحتاجين... فأين تذهب هذه الأموال ولماذا لم تساهم في الحدّ من تنامي الفقر.

أنواع المساعدات

تنقسم المساعدات الإنسانية في لبنان إلى شقّين أساسيين، وهما

شبكة الأمان الاجتماعي، وهي عبارة عن المبادرات التي تُنفّذ بالشراكة مع الدولة، وتضمّ:

  •   برنامج شبكة الأمان الاجتماعي الطارئ ESSN المموّل من البنك الدولي.
  • البرنامج الوطني لاستهداف الفقر NPTP المموّل من البنك الدولي ومنظمات دولية.


المساعدات الإنسانية المقدّمة من الوكالات المحلية والأجنبية بشكل مباشر أو عبر الجمعيات غير الحكومية، وتضمّ على سبيل الذكر لا الحصر:

  • المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين UNHCR
  • منظمة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين UNRWA
  • منظمة الأمم المتحدة للطفولة UNICEF
  • برنامج الغذاء العالمي WFP
  • المساعدات الشعبية الاميركية USAID
  • قصور المساعدات من النّاحية التقنية


فرح الشامي

على الرّغم من أهمية المساعدات سواء التي تتمّ عبر برامج منظمة، أو عبر القنوات الخاصة، إلّا أنّها تتضمن مشاكل كثيرة بحسب الزميلة الرئيسة ومديرة برنامج الحماية الاجتماعية في مبادرة الإصلاح العربي، فرح الشامي ولو أنّ الشكل الأوّل من المساعدات أي عبر البرامج الحكومية يتضمّن مشاكل أقلّ نسبياً. ومن المشاكل المشتركة التي تلاحظها الشامي:

  • غياب الفعالية، فالبرامج لا تؤمّن الحماية الكافية. وسواء كانت المساعدات تتمّ عبر حوالات نقدية، أو قسائم شرائية، أو مساعدات غذائية (صناديق إعاشة)… فهي لا تؤمّن أكثرية متطلبات الأسر والأفراد. فهي تبقى قاصرة عن تأمين أبسط احتياجات الأسرة إذا كانت نقدية. وينحصر دورها في تغطية شقّ معيّن إذا كانت عينية. فهي تؤمّن الغذاء مثلاً، فيما قد تكون حاجة العائلة الأساسية هي للدواء أو الكهرباء... أو غيرها الكثير من المتطلّبات. كما أنّ الكميّات عادة ما تكون قليلة.
  • انعدام مبدأ الشمولية، بمعنى أنّ الطريقتين تعتمدان على منهجيات استهداف قاصرة. وبالتالي لا تصل المساعدات لكلّ المحتاجين.
  • التجزئة لناحية البرامج والسياسات. ولناحية القيمين عليها.
  • الاستنسابية في قاعدة البيانات واعتمادها في الكثير من الأحيان على المحسوبيات (الواسطة).
  • ارتفاع هامش الخطأ في اعتماد آليّة التقدير لوضع الأسرة المعيشي سواء عبر التقدير أو التصريح الشخصي. الأمر الذي يؤدّي إلى استبعاد عائلات مستحقة.
  • الازدواجية وعدم التكامل بين البرامج من جهة، وبينها وبين المساعدات الإنسانية من الجهة الثانية. فمن الممكن أن تكون العائلة تستفيد من المساعدات من أكثر من جهة في حين لا تستفيد أسر محتاجة من أيّ مساعدة.
  • عدم تقديم المعلومات الصحيحة من قبل العائلات حتّى أمام الجهات الإحصائية التي تقوم بالدراسات فقط من دون خلفية تقديم أي نوع من أنواع المساعدات، وتعتمد على العينات من دون إظهار الأسماء. فتقلّل العائلات من قيمة الدخل، وتنفي حصولها على أيّ نوع من أنواع المساعدات.


تخدير المجتمع

تتشكّل شبكات الأمان الاجتماعي والمساعدات الإنسانيّة كردّة فعل على الأحداث. ولعلّ أخطر ما فيها أنّها تفسح المجال أمام الحكومة للتنصّل من مسؤوليتها، وتحوّلها إلى اتكالية. في حين تضمن الحماية الاجتماعية القوانين وتنصّ عليها شرعة حقوق الإنسان وبقيّة الاتفاقات والمعاهدات المصادق عليها من قبل لبنان، باعتبارها حقّ لا يمكن أن يتخذ شكل "حسنة، أو خدمة"، برأي الشامي. "وهو يعطى من خلال عقد اجتماعي". وعليه فإنّ هذه البرامج ولو أنّها تتمّ عن حسن نية وبهدف مساعدة اللبنانيين واللاجئين، إلّا أنّها تؤثر سلباً على مفهوم العقد الاجتماعي وتؤمّن مخارج للسلطة تسمح لها التنصّل من دورها.

بغضّ النظر عن حجم البرامج ومقدار تقديماتها، فهي تبقى كـ "ضمادة توضع على سطح المشكلة، من دون أن تطال الجوهر"، تؤكد الشامي. "وما ينطبق على لبنان ينطبق على كل الدول. فالعنوان العريض للبرامج هو "التخفيف من حدّة الفقر"، بمعنى أنّه لا يحدّ منه أو يوقفه. وبذلك تكون هذه المساعدات بمثابة المخدّر الذي يريح الحكومات من الغضب والاحتجاجات التي يولّدها الفقر والعوز والجوع. وعليه نكون نساعد على إنتاج استقرار مصطنع في نظام فوضوي وعشوائي وهشّ ومعرّض للانهيار في أيّ لحظة". وعليه تؤدّي المساعدات إلى ما يعرف بـ "الجمود الاجتماعي social inertia"، تؤكّد الشامي. "فعلى الرغم من حدّة الفقر والتناقضات الصارخة نرى المواطنين خانعين راضين بواقعهم".

كحل المساعدات ولا عمى الأزمة

في ظلّ غياب دور الدولة، وتدهور نظام الضمان الاجتماعي، وانعدام الضمانات الصحية، وتعويضات نهاية الخدمة، وبدلات البطالة.. يجاهر كثر بأنّ "كحل المساعدات أفضل من عمى الأزمة"، وهم محقّون بذلك. إلّا أنّه "عندما تتخلخل الأساسات، لا يعود الترقيع يجدي نفعاً، مهما كان التشطيب جميلاً"، برأي الشامي. "ويكون المطلوب هدم المبنى وإعادة البناء على قواعد صلبة وسليمة لعدم التهديد بانهدام المبنى على رؤوس قاطنيه عند أبسط اهتزاز". وتوازياً، فإنّ قسماً لا بأس به من البرامج التي تكلّف الكثير من الأموال يذهب كعمولات على الحوالات، ومخصصات للعمليات، وبناء القدرات والتدريب والتأهيل والمرشدين الاجتماعيين وفرق الإحصاء... وخلافه من العمليات التي يتطلّبها توزيع هذا الحجم من المساعدات الذي يتخطّى مئات الملايين من الدولارات. وعليه يفترض أن تستغلّ هذه الأموال أقلّه في بناء البنى التحتية التنموية تدريجياً. وهذا ما لا نلاحظه إلّا في عدد قليل من البرامج، منها للمثال: البرنامج الممول من الاتحاد الاوروبي عبر اليونسف National Disability Allowance المقر حديثاً. والذي يشكّل برأي الشامي "التطور الطبيعي والنموذجي لبرامج الحماية الاجتماعية نظراً لكفاءته العالية".  

الحلّ

انطلاقاً من هذا الواقع يمكن القول إنّ المساعدات الإنسانية لا تشكّل الحلّ لآفة الفقر في المجتمعات عموماً، ولبنان خصوصاً، إنّما الأساس يجب أن يكون "بالاعتماد على تحمّل الحكومة المسؤولية بإعادة تفعيل دور الضمان الاجتماعي للمواطنين والمقيمين. وتوحيد الجهات الضامنة لمنع الازدواجية. وتفعيل برامج الحماية الاجتماعية العديدة. تأمين أرضية حماية اجتماعية للجميع، أي تغطية أفقية من دون استثناء"، بحسب الشامي. "وذلك من خلال المساعدات الاجتماعية والمنح، غير القائمة على الاشتراكات. والتي تتحدد حسب المدخول والحاجة وتغطّي كلّ نواحي الحياة ومخاطر الحياة من بطالة وإعاقة، ودورة الحياة من الطفولة إلى الشيخوخة. ومن خلال التغطية الصحية الشاملة. وتفعيل التأمينات الاجتماعية التي تقوم على المساهمات والاشتراكات بحسب المدخول". أمّا لجهة التمويل فيجب أن "يكون من خلال الإصلاحات الضريبية الحقيقية والتصاعدية، وتفعيل الجباية لتمويل المساعدات غير القائمة على الاشتراكات. فيما التأمينات القائمة على الاشتراكات تموّل نفسها بنفسها. فنتخلّص وقتذاك تدريجياً من مسألة التمويل الأجنبي.

يتطلب تنفيذ مثل هذه الخطوات النية أولاً، والعمل الجاد ثانياً وإنشاء السجل الوطني الموحد القائم على بطاقة الهوية والإقامة. وذلك من أجل ضمان الشمول في التغطية. وعلى الرّغم من أنّه حتى مع هذا النظام ستبقى هناك شرائح مستثناة إمّا بسبب البعد المناطقي أو عدم المعرفة، وإمّا عن قصد خوفاً من شمولها بالنظام الضريبي. ومع وجود الاحتمال الدائم باندلاع الازمات تأتي شبكات الحماية الاجتماعي لتكمل الدور، ومن بعدها المساعدات الانسانية لتكمل النقص في مهمة الدولة والشبكات. صحيح أنّ هذا النظام يبدو من النظرة الأولى نظري، إلّا أنّه فعّال ومطبّق في العديد من البلدان.

كادر

الاستراتيجية الوطنية للحماية الاجتماعية

وضعت من قبل مجموعة من المنظمات المحلية والدولية وقدّمت لوزارة الشؤون الاجتماعية وتمّ التوافق عليها وإقرارها في مجلس الوزراء من بعد إعادة صياغتها الأسبوع الماضي. وتعتبر الاستراتيجية خطوة واعدة وأولى بالاتجاه الصحيح من حيث الشكل. وينتظر نشرها ليبنى على الشيء مقتضاه من حيث المضمون.