كشفت شعبة السكان في الأمم المتحدة أنّ عدد الأشخاص المعمّرين الذين يبلغون مئة عام وما فوق في ازدياد عالمياً. وذكرت الشّعبة أنّ أكثر من 621 ألف شخص يبلغ عمرهم مئة عام على الأقل كانوا يعيشون على الكوكب في عام 2021. في حين ثمة توقّعات بأن يتجاوز هذا الرقم عتبة المليون بحلول نهاية العقد الجاري، مقارنة مع 92 ألف "مئويّ" فقط عاشوا عام 1990.

لا ريب أنّ التقدّم الهائل الذي يشهده العِلم بمختلف ميادينه منذ أوائل القرن الماضي أرخى بظلاله على ارتفاع متوسّط أعمارنا. ونحن في ذلك مدينون لإنجازات وفّرت علاجات طبّية وتغذية وظروف معيشية تفوق ما كان بمتناول أسلافنا جودة. لكن، على درب المئويّين، هناك مجموعة ممّن يُعرَّفون بالمعمّرين الخارقين (Superagers). المصطلح أطلقه باحثون من جامعة نورث وسترن الأميركية ويشمل من يبلغون من العمر 80 عاماً وما فوق ويُظهرون وظائف معرفية تُقارَن بتلك التي يتمتّع بها أفراد متوسّطو العمر.

في دراسة إسبانية حديثة نُشِرت نتائجها في مجلة The Lancet للشيخوخة الصحية، تبيّن أن هناك خصائص – إضافة إلى العوامل الوراثية والشخصية – من شأنها تفسير ما يجعل المعمّرين الخارقين يحتفظون بقدرات ذهنية وذاكرة متّقدة. الدراسة شملت 64 معمّراً خارقاً و55 شخصاً من كبار السِنّ الأصحّاء. وعكف العلماء خلالها على البحث عن اختلافات محتملة بين الفئتين عن طريق المسوحات الدماغية، اختبارات التنقّل، التقييمات العيادية للصحّة النفسية، الاستطلاعات المرتبطة بأسلوب الحياة، وعيّنات الدم. بينما كشفت نتائج التصوير بالرنين المغناطيسي، بما لا يتناقض مع تجارب سابقة، أنّ أدمغة المعمّرين الخارقين انكمشت بوتيرة أبطأ من نظرائهم في المناطق المرتبطة بالذاكرة والحركة، على مرّ سنوات خمس من المراقبة والتحليل.

والحال أنّ أدمغة المعمّرين الخارقين أظهرت تواجُد كمّية أكبر من المادة الرمادية (Grey Matter) لديهم. وهي المادة التي تتشكّل من الخلايا العصبية وتؤدّي وظائف عدّة في معالجة المعلومات، التحكّم بالعواطف، الحركة، والذاكرة. ناهيك عن أنّ المادّة تلك تآكلت لديهم بوتيرة أبطأ خلال مراحل التجربة. ذلك تماشياً مع واقع أنّ المعمّرين عامّة كانوا بالفعل أكثر نشاطاً في منتصف عمرهم، مع نمط نوم وصحة نفسية أفضل من غيرهم في مرحلة متقدّمة من العمر.

وقبل سنوات، ظهر من خلال تحليل الحمض النووي لمجموعة من المعمّرين أجرته جامعة بوسطن الأميركية أن الجينات، بدورها، تشكّل عاملاً هامّاً في إطالة أعمار وتمكين صحّة هؤلاء. فقد قدّرت التجربة وجود أكثر من 200 جينٍ تلعب مجتمعة أدواراً مختلفة في تجنيب المعمّرين مخاطر الإصابة بالخرف وأمراض السرطان والقلب.

من ناحيته، يقول الدكتور مارك ميلستين، الخبير في الصحّة الدماغية ومؤلّف كتاب (الدماغ المقاوِم للعمر: استراتيجيات جديدة لتحسين الذاكرة، حماية المناعة ومحاربة الخرف)، إنّ تصرّفاتنا، وليس فقط جيناتنا، ذات أثرٍ بالغٍ على مصير أدمغتنا. فما يميّز المعمّرين عمّن يعانون من ضعف الذاكرة، بحسب دراسة أجريت قبل سنتين، هو عدم انقطاعهم عن اكتساب مهارات وتَعلّم أشياء جديدة. وقد يكون الاكتساب والتَعلّم على المستويين الذهني والجسدي كما على صعيد التخالُط الاجتماعي.

ميلستين شبّه الدماغ بحسابٍ مصرفي، إذ يكون ما نتعلّمه بمثابة إيداعٍ يغذّي الذاكرة عن طريق نشوء وتفاعُل الروابط بين خلاياه. ومع التقدّم بالعمر، نخسر بعض تلك الروابط تلقائياً بما يشبه – تبسيطاً - عملية سحبٍ من ذلك الحساب المصرفي. لذا، كلّما ازداد حجم الإيداعات، كلّما تضاءل تأثير السحوبات اللاحقة على "إرثنا" الدماغي.

بالحديث عن تلك الروابط، لفتت دراسة لجامعة نورث وسترن نشرتها مجلة Neuroscience في أيلول الماضي إلى أن الخلايا العصبية (Neurons)، المتواجدة في القشرة الشمية الداخلية (Entorhinal Cortex) - المسؤولة عن الذاكرة - في أدمغة تَبرّع بها معمّرون خارقون متوفّون، كانت أكبر حجماً من تلك لدى نظرائهم ممّن يمرّون بأولى مراحل مرض ألزهايمر وحتى لدى أفراد يصغرونهم ما بين عشرين وثلاثين عاماً. كما تبيّن أنّ تلك الخلايا لم تعكس أيّ أثرٍ لما يُعرف بتشابكات تاو (Tau Tangles) - وهي سمة أساسية، لأسباب ليست واضحة تماماً بعد، من سمات الإصابة بالمرض. والملاحظتان مجتمعتان تشيان بتمتّع المعمّرين بعلامة بيولوجية فارقة على درب التعمير الخارق. وهو تميُّز ذات خصائص كيميائية، أيضية وجينية، بحسب العلماء.

نعود إلى العامل الجيني. فقد كشفت دراسة ضخمة أجراها فريق من الباحثين البريطانيين والإيطاليين ونُشرت أوائل العام الحالي في مجلة Cardiovascular Research إمكانية الاستعانة بمتحوّر جيني يتمتّع به المعمّرون الخارقون لمساعدة من يواجهون مشاكل في القلب على عكْس عقارب ساعتهم القلبية بواقع عشر سنوات إلى الخلف. واعتماداً على اكتشاف متحوّر جيني، أُطلق عليه اسم BPIFB4، في العام 2018، استنتج الباحثون أن مدّ خلايا بشرية بذلك الجين مخبرياً إنّما ساهم في وقف شيخوخة القلب، لا بل عكَسها على نحو جعل الخلايا القلبية للمرضى المستهدَفين أكثر نجاعة في تجديد الأوعية الدموية.

كذلك، فاجأت الخلايا الدموية الجديدة الفريق لاشتمالها هي الأخرى على الجين BPIFB4. وهذا يعني أنّ الأشخاص الأكثر عرضة للإصابة بمشاكل قلبية قد يفتقدون لذلك الجين من أساسه. وهكذا، يأمل العلماء عبر ضخّ الأخير في خلايا المرضى بأن تتمّ الاستعاضة به عن العلاج الجيني في حالات مماثلة. وهذا ليس بالتفصيل البسيط، إذ إنّ للعلاج الجيني، كتقنية تصحيح للجينات المعيبة، آثاراً جانبية تصل حدّ إصابة متلقّيه بمرض السرطان.

إذاً، نحن أمام عوامل عدّة تتفاعل وتتداخل على الطريق إلى التعمير الخارق الآخذ في الازدياد. فهْم تلك العوامل في السنوات المقبلة مهمّ للغاية. لكن ثمّة ما هو أهم مستقبلاً: التوصّل من خلال ذلك الفهم لمساعدة أكبر قدر من الناس على بلوغ مرحلة الشيخوخة بأفضل صحّة – عقلية وجسدية – ممكنة.