يعود أساس المشكلة إلى "الطريقة التي أدار بها الحاكم السابق رياض سلامة، المصرف المركزي طوال ثلاثة عقود"

زحمة أرقام على خطّ "مصرف لبنان – الدولة"؛ والسبب: انقلاب "شاحنة" عدم الالتزام بالقانون، التي كانت تسير بتهوّر منذ التسعينيات. دِفق المعلومات المكتشفة من التدقيق الجنائي والمحاسبي والمالي في المركزي، وتشابك المصالح بينه وبين الإدارات العامّة والخاصّة، ينذر بما لا تحمد عقباه. فالمشكلة لا تنحصر بالحجم الهائل للخسائر والوقت الطويل الذي تتطلّبه لمعالجتها، إنّما استمرار المسؤولين بـ "ركل العلبة تحت الطريق"، و"استقتالهم" لشراء الوقت بأعلى كلفة.

جديد المعطيات ما بيّنته جردة الأرقام في أرصدة المركزي التي فرضها استلام النائب الأول مهام الحاكمية بالوكالة. فالمحضر الرسمي بيّن أنّ مجموع الموجودات السائلة في المركزي يبلغ 8572 مليون دولار، فيما مطلوباته تصل إلى 1270 مليون دولار. وتُظهر الأرقام التفاوت الكبير مع ما قدّمه سلامة على ورقة مكتوبة بخط اليد للرئيسين ميشال عون وحسان دياب في كانون الثاني 2019، حيث كانت موجودات المركزي تعادل 52718 مليون دولار، ومطلوباته 24820 مليون دولار.

تراكم الخسائر

اللافت في محضر الجلسة الرسمي عدم تضمينه المطلوبات للمصارف الخاصّة والتي تعادل حوالي 72 مليار دولار، ولا قيمة الذهب الموجود من جهة الموجودات. وبمقارنة سريعة بين 2019 و2023 يتبيّن أنّ التوظيفات الإلزامية انخفضت من 19.3 مليار دولار إلى أقلّ من 9 مليارات. كما تراجعت قيمة ما يحمله المركزي من محفظة السندات بالعملات الأجنبية "اليوروبوندز" من 5.2 مليار دولار إلى 387 مليون دولار، وذلك بعد احتسابها بقيمتها السوقية التي تعادل 7.4 سنت للدولار. ولعل أفدح الأرقام تمثّل بتراجع رصيد حقوق السحب الخاصة SDR التي تسلّمتها وزارة المالية من صندوق النّقد الدولي في أيلول 2021 من 1139 مليون دولار إلى 125 مليوناً، وذلك في أقلّ من عامين.

الإدارة الخاطئة

يعود أساس المشكلة إلى "الطريقة التي أدار بها الحاكم السابق رياض سلامة، المصرف المركزي طوال ثلاثة عقود"، يقول الاستاذ المحاضر في قوانين النّقد والمصارف المركزية، والذي شغل سابقاً منصب مدير الشؤون القانونية ثم الدولية في مصرف لبنان، توفيق شنبور. "فالحاكم لم يكن يقيم وزناً للقوانين، وفي مقدّمها قانون النقد والتسليف. وكان منصاع لقرارات السلطة السياسية، ولاسيّما في إقراضها الأموال من دون أيّ سند قانوني، أو حتّى دراسة لانعكاسات الإقراض على الاوضاع النقدية والاقتصادية. وذلك على عكس من سبقوه من حكّام، أمثال إدمون نعيم وميشال خوري والياس سركيس. ولعلّ أبسط دليل على ذلك إلغائه الحساب الذي تنصّ عليه المادة 75 من قانون النقد والتسليف، في العام 1994من دون أيّ مبرر، والعودة إليه قبل نهاية ولايته بأشهر قليلة، حيث تبيّن أنّ هناك ديناً هائلاً على الدولة"، (يتجاوز 40 مليار دولار). وتسمح المادة 75 للمصرف استعمال الوسائل التي يرى أنّ من شأنها تأمين ثبات القطع والتدخل بالسوق بائعاً وشارياً للعملات. وتقيّد عمليّات المصرف على العملات الاجنبية في حساب خاص يسمّى "صندوق تثبيت القطع".

انعدام الشفافية

من البديهي أنّ إدارة المركزي طوال الحقبة الماضية، كانت بعيدة عن الشفافية. حيث تنقل الأموال بين الحسابات، وتسجّل الخسائر على أنّها أرباح، وتعطى القروض للدولة من دون عقود. وكلّ ذلك كان يجري في إطار من السرّية، ومن دون أيّ إفصاح كما تنصّ القوانين والقواعد الإجرائية، ولا حتّى متابعة من قبل مفوّضي المراقبة. وبرأي شنبور فإنّ "الخسارة المحقّقة في المركزي تعود للعام 2016، وقد بيّن ذلك بوضوح تقرير صندوق النّقد الدولي لذلك العام. وذلك على عكس ما كشفه التدقيق الجنائي بأنّ الخسائر الفعلية بدأ تحقيقها في العام 2017".

ما العمل؟

كلّ هذه المعطيات تقودنا إلى سؤال جوهري: ما العمل؟ فالمتبقّي من الأموال (الخاصّة) في المركزي لا يكفي لأشهر قليلة بالقياس إلى ما تمّ صرفه وتبذيره في السنوات الثلاث الماضية. في المقابل فإنّ الحاجات كبيرة. ولا يستطيع المركزي بحسب وجهات نظر عديدة الوقوف موقف المتفرّج من سقوط البلد فريسة الانهيار الكلّي، وعليه إقراض الدولة مقابل ضمانات قانونية". هذا الموقف يعارضه شنبور ويعتبر أنّ "الإقراض لم يعد يجوز حتّى في ظلّ وجود قانون أو تشريع يسمح بذلك. فالتوظيفات الإلزامية التي سيجري الإقراض منها هي ملك خاص يعود إلى المودعين ولا يجوز المساس بها". أمّا المجادلة فإنّ الإقراض سيكون بشرط إقرار رزمة من القوانين الإصلاحية مثل موازنتي 2023 و2024 والكابيتال كونترول والانتظام المالي، فيسأل شنبور "من قال أنّ هذه القوانين تضمن تحقيق عائدات للخزينة تسمح بإرجاع المبلغ المقترض"؟ أمّا في ما يتعلّق بالجدل المستجدّ بعدم قبول المركزي تحويل كامل مبلغ الجباية من الكهرباء إلى الدولار، فيعتبر شنبور أنّ "المادة 75 واضحة لجهة إلزامية المركزي تنفيذ طلبات الحكومة. وفي هذه الحالة تتمّ العملية من خلال تدخّل المركزي في سوق القطع بائعاً لليرة وشارياً للدّولار. إلّا أنّه إذا كان من شأن هذه العملية إحداث خلل ما في سوق القطع، أو التأثير سلباً على سعر الصرف، فيحقّ ساعتذاك للمركزي رفضها".

المركزي والكهرباء "غرام وانتقام"

تشير المعلومات إلى أنّ المركزي سيعمد ابتداءً من مطلع الأسبوع القادم إلى تحويل ليرات الكهرباء المجمّعة لديه إلى دولار بشكل تدريجي. وبحسب المعطيات فإنّ الكهرباء حصلت فواتير بقيمة تناهز 2517 مليار ليرة أو ما يعادل 37.2 مليون دولار عن الفترة التي تعود إلى ما قبل نهاية العام 2022. وتطلب من المركزي تحويل 10 مليون دولار للخزينة كدفعة من السلفة المحددة بـ 300 مليون دولار، والباقي تتصرّف به لتسديد متوجّبات شركات مقدمي الخدمات. هذا الواقع يعيدنا إلى سؤال شنبور السابق: "من يضمن أن تعاد الأموال للمصرف المركزي في حال الإقراض؟" فما يجري في الكهرباء خير دليل على تسديد الدولة ومؤسساتها المتوجبات عليها. فعدا عن أنّ مبلغ 10 مليون دولار لا يشكّل أكثر 3.3 في المئة من السّلفة، فإنّ المبالغ المجمّعة لا تكفي لشراء الفيول والاستمرار بخطّة الطوارئ كما كانت تنصّ. وهو ما يهدّد الكهرباء بالوقوع مجدداً في العجز عن رد السلفات وتأمين الفيول وبالتالي الكهرباء، وذلك على الرغم من الكلفة الباهظة التي يتحمّلها المواطن.