أمّا وقد قبل منصوري المسؤولية فبات من الصّعب عليه التراجع وإن كانت الاستقالة أمرّ الخيارات وأصعبها بالنّسبة إليه

لم يطل الوقت كثيراً حتّى وجد حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري نفسه في ورطة. التعهّدات التي تلقّاها غداة اجتماعه وزملائه الثلاثة مع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ووعود الإيفاء بالإلتزامات وإصدار التشريعات اللازمة لورشة إصلاح كفيلة بتأمين الإيرادات للدّول... تبخّرت.

سحب ميقاتي تعهّده بتقديم مشروع قانون الإقتراض بالعملات الأجنبية، وبات يضغط باتّجاه إصداره من مجلس النوّاب، ومن خلال تقدّم عدد من أعضاء المجلس النيابي باقتراح قانون في هذا الشأن. إجراء رفضه رئيس مجلس النواب نبيه بري إذ كيف يمكن التعهّد عن الحكومة للمصرف المركزي بردّ الأموال التي منحت للحكومة على سبيل قروض.

يعتبر رئيس مجلس النّوّاب أنّه من الطبيعي أن ترفع الحكومة مشروع قانون لمجلس النواب لمناقشته وإقراره، بينما يرى ميقاتي أنّ إقرار مثل هذا المشروع من جانب الحكومة يلزمه وقتاً. فيجيبه برّي أنّ الأمر برمّته لا يقع في صلاحية مجلس النواب ولا يمكن توافر عشرة نواب لتقديم القانون.

عندما تسلّم منصوري مهامه وقبلها، كان له رئيس المجلس النيابي بالمرصاد طالباً إليه ألّا يتّخذ أيّ إجراء بالصرف من دون تشريعات أو طلب من الحكومة.

ضيّقت خلافات بري ميقاتي الخيارات أمام منصوري. الرجل الذي كان أقرب إلى الإستقالة لولا تعهّدات حكومة تصريف الأعمال، بالتّالي قد تكون الإستقالة خياره المتبقّي، بدل أن يُترك وحيداً في مواجهة أزمة قد تفرض عليه الإستعانة بالإحتياط وهو ما يرفض اللجوء إليه إلّا بتفويض قانوني.

عندما تسلّم منصوري مهامه وقبلها، كان له رئيس المجلس النيابي بالمرصاد طالباً إليه ألّا يتّخذ أيّ إجراء بالصرف من دون تشريعات أو طلب من الحكومة. بمعنى آخر طلب إليه بالسّير تحت سقف القانون تجنّباً لتحمّل المسؤولية. تلك المسؤولية التي يحاذرها برّي وهو مرجعية منصوري السياسية، وهو متخوّف منذ البداية من أن يُدفع الحاكم بالإنابة إلى خطوة ناقصة تضع الشيعية السياسية في مرمى الإنتقادات وتلقى المسؤولية على عاتقها.

أمّا وقد قبل منصوري المسؤولية فبات من الصّعب عليه التراجع وإن كانت الاستقالة أمرّ الخيارات وأصعبها بالنّسبة إليه، خاصّة وأنّ العودة الى اتّباع سياسة رياض سلامة غير ممكنة. أوّلاً للانتقادات التي وجهها منصوري نفسه للعهد القديم وتعهّد بعدم اتّباع خطواته. ثانياً أنّ سلامة خرج ومفاتيح الحلّ معه . فالقرارت التي كان يتّخذها ويرمي بالمسؤولية على عاتقه ليس بالإمكان أن يلجأ إليها منصوري الذي لا يملك أدوات التحكّم بالسّوق بعد.

في وقت يصعب على مجلس النّوّاب الإنعقاد في ظلّ من يعتبره في دورة انعقاد لانتخاب رئيس للجمهورية ولتعذّر إقناع الكتل النيابية بتأمين النّصاب لإقرار تشريعات يطلبها ميقاتي وحكومته. يرغب ميقاتي في رفع المسؤولية عن عاتق حكومته ويشترط تغطية من مجلس النواب.

لم يدم التّوافق بين الحكومة ونوّاب الحاكم الأربعة طويلاً حتى ساءت العلاقة، ما وضع ميقاتي في قفص الإتهام بالانقلاب على تعهّداته لنوّاب الحاكم. حتى بّري لم يرق له ما سمعه من ميقاتي فصوّب نحوه سهام نائبه علي حسن خليل لوضع النّقاط على حروف اقتراحاته.

تورَّط منصوري يقول بعض المقرّبين، وأخلّ ميقاتي بالتزاماته والخلاف بين برّي وميقاتي لم يجد طريقه للحلّ بعد.

من وجهة نظر برّي فإنّ طلب الدَّين والتعهّد بسداده يأتيان من السّلطة التنفيذية حصراً، وأيّ اقتراح قانون من النّوّاب بهذا الخصوص هو انتقاص من صلاحيّات الحكومة وإلزامها بالتزامات قد لا تكون قادرة على إيفائها. وهو أمر لا يجوز تشريعاً ولا تنفيذاً، ولذا تعتبر أنّ رأي رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي سياسيّ وليس قانونياً، ولكنّ السياسة لم تعد تجدي.

ثمّة وجهة نظر تقول أنّ القانون الذي يسمح للمصرف المركزي بإقراض الحكومة، والذي يطالب به وسيم منصوري هو إدانة مباشرة وعلنيّة لكلّ السّلطات والحكومات المتعاقبة. بما فيها السّلطة التشريعيّة. وإنّ تبنّي الرّئيس بري لهذا الطلب هو محاولة لتغطية المخالفات القانونية طيلة الحقبة السابقة تحت عنوان "الضرورات تبيح المحظورات". وبحسب وجهة النظر هذه، فإنّ الاستثناء الوحيد للحقبات السابقة كانت خلال ولاية الرئيس إميل لحود وحكومة عهده الأولى برئاسة الرئيس سليم الحص التي رفضت عمليّات الإقراض المفتوح، ووضعت خطّة خمسية لمعالجة المديونية العامّة، وتمّ إجهاضها من قبل القوى السياسية المتحكّمة بمفاصل القرار آنذاك.

مقرّبون من منصوري يتحدّثون عن معركة شدّ حبال بين السّلطتين التشريعية والتنفيذية مردّها غياب التّعاطي بإيجابية مع موضوع إقراض الحكومة، وخشية رئيس الحكومة من تحميله وحكومته المسؤولية، بينما يؤخذ على السّلطة التشريعية التّعاطي بشعبوية مع الموضوع، والخوف من تحمّل المسؤولية أمام المودعين أي أنّه تعاطي غير جدي من قبل مجلس النواب. وضع منصوري خارطة طريق لعمله ولن يقبل منح الحكومة أيّ أموال قبل التزام ردّها، ويبدي تفاؤله بإمكانية تأمين الإيرادات من خلال برنامج إصلاحات، ويتلاقي مع الحكومة بذلك لتقديم مشروع إصلاحي موازي للموازنة .

الآن يدور الحديث عن حلّ تتقدم به الحكومة ويتبنّاه مجلس النوّاب مجتمعاً، شرط أن يكون الإقراض محدّد بمسائل محدّدة، مع تعهّد بسداده سنوياً ومع تسجيله في الموازنة العامة انفاقاً وسداداً. وتقول مصادر حكومية أنّ وزير المالية أُوكل العمل على صيغة وسط لا هي مشروع ولا إقتراح لتصلح ذات البين بين السّلطتين. فهل سينجح في وضع صيغة ترضي الطّرفين وتسعف منصوري في القيام بدوره؟

من ناحية منصوري يقول المتحمّسون لأدائه أنّ كلّ الذبذبات في السياسة لم تؤثّر على سعر الصّرف خلافاً للإعتقاد الذي كان سائداً، ما يؤشر إلى سياسة رشيدة وحكيمة ينتهجها. وينقل هؤلاء التزام الحاكم بكلّ ما طلبه من تشريعات لعمله وإنفاقه وأنّه بعد فترة وجيزة سيعلن للرأي العام وعبر موقع المصرف المركزي الإلكتروني كلّ الارقام التي تبيّن حقيقة الموجودات في المصرف المركزي وحجم الإحتياطي، ليكون كلّ شيء مكشوف وهو مصرّ على عدم تمويل الدولة إلّا ضمن سياسة مالية تمكّن الإحتفاظ بالإحتياط، بينما تنقل المصادر الحكومية أنّ الحكومة من ناحيتها بصدد مناقشة خطّة للإصلاح بموازاة إقرار الموازنة.

كل ذلك لا يلغي وجود أزمة في العلاقة بين برّي وميقاتي باتت مرهونة بالحلّ الذي أُوكل بإخراجه إلى وزير المالية، ولو أنّ ذلك لن يلغي وجود أزمة حقيقية مردّها أنّ منصوري سيجد نفسه وحيداً وستكون كلمة السّرّ التي سيعمل بموجبها "الجود من الموجود" وتسيير الأعمال وفق نطاقه الضيّق.