لا شكّ أنّ هذه التغييرات في هيكلية القوّات المسلّحة الهندية ستفرض تحوّلات استراتيجية في الوضع الأمني الإقليمي والعالمي، خاصّة وأن الهدف منها لا ينحصر فقط في مواجهة باكستان والصين، إنّما يتعدّاه...

تستعدّ الهند لإطلاق مخطّط إعادة تنظيم قوّاتها المسلّحة وذلك عشية الذكرى الـ76 لاستقلالها. في خطوة هي الأولى من نوعها منذ الخامس عشر من آب 1947، تاريخ تجزئة الهند البريطانية إلى دولتين: الهند ومساحتها 3,300,000 كلم2؛ وباكستان ومساحتها 796،000 كلم2. فماذا وراء المخطّط، وهل تراهن العاصمة نيودلهي على شراكة استراتيجية جديدة تضمن من خلالها أمنها الإقليمي؟

تحدّيات مزمنة

لا شكّ أنّ النزاع القائم بين الهند (عملاق جنوب آسيا) وباكستان (الدولة النووية) أبقى الدولتين في حالة من الاضطراب لفترة طويلة. فبعد نشأة الدولتين بدأ الصّراع الإقليمي الاستراتيجي على منطقة كشمير الواقعة شمال غرب الهند وشمال شرق باكستان، والتي تبلغ مساحتها حوالى 242,000 كلم2 مع عدد سكان يزيد عن الـ15 مليون نسمة.

ولم تكن مفاعيل الأزمة الحدودية مع الصين (العملاق العسكري والاقتصادي) أقلّ وطأة على الهند. فمنذ العام 1947 كانت الخلافات المتكررة بين نيودلهي وبكين سببها نزاعات جغرافية على كامل حدودهما التي تزيد عن 3000 كلم أغلبها في جبال هيمالايا، واستمرّت حتى تاريخ إنشاء خطّ وقف إطلاق النّار غير الرسمي الذي عُرف بخطّ "السيطرة الفعلية"، لكنّ مواجهات متقطعة بقيت تحصل من كلا الجانبين، سرعان ما يجتمع القادة المحليون لبحثها ومعالجتها.

ورشة تنظيمية... إلى العلن

بناء لما تقدّم، وفي محاولة للحدّ من هذه النزاعات القائمة، تحرّكت الهند سعياً لإيجاد سبل للمعالجة، فكان خيار التقرّب من الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، تزامناً مع ابتعادها التدريجي عن روسيا إثر حربها على أوكرانيا. أمّا النتيجة فكانت إطلاق نيودلهي لأوّل مخطّط من نوعه منذ نيلها استقلالها، وتهدف هذه الخطوة إلى تنفيذ أكبر عملية لإعادة تنظيم قوّاتها المسلّحة المؤلّفة من الجيش والقوّات الجويّة والبحريّة. وتجدر الإشارة إلى أنّ الجيش الهندي يبلغ تعداده نحو 5 ملايين و132 ألف فرد، وهو رابع أقوى جيش في العالم.

هذا المخطّط الذي ستعلن الهند عن تفاصيله في الذكرى الـ76 لاستقلالها منتصف الشهر المقبل سيتضمّن ما يلي:

• إعادة تنظيم القيادة الجنوبية الغربية التي ستتمركز عند الحدود الغربية مع باكستان، وتحويل مقرّها إلى مدينة "جايبور".

• إعادة تنظيم القيادة الشمالية الثانية التي ستنتشر على طول حدود جبال الهيمالايا مع الصين، وتحويل مقرّها إلى مدينة "لكناو".

• إعادة تنظيم القيادة البحرية في ولاية كارناتاكا الساحلية على ساحل شبه القارة الهندية الغربي، وتحويل مقرّها إلى مدينة كاروار. ومن أبرز مهامها الدفاع عن الساحل الجنوبي الغربي، وتأكيد الهند على نفوذها البحري على حوض المحيط الهندي وما وراءه.

تشكّل إعادة تنظيم هيكلية القوّات المسلحة الهندية فرصة تاريخية للقيادة الجديدة من أجل حماية أراضي الهند من أيّ تواطؤ صيني - باكستاني محتمل

أبعد من المواجهة

لا شكّ أنّ هذه التغييرات في هيكلية القوّات المسلّحة الهندية ستفرض تحوّلات استراتيجية في الوضع الأمني الإقليمي والعالمي، خاصّة وأن الهدف منها لا ينحصر فقط في مواجهة باكستان والصين، إنّما يتعدّاه ليشمل محاولة جعل الهند شريكاً أمنياً فاعلاً وأساسياً للولايات المتحدة الأميركية.

فالصراع الأمني الرئيسي الذي واجهته الهند مع باكستان - منذ أن خاضت الجارتان حروبهما الأربعة في الأعوام 1947، 1965، 1971 و1999 – أصبح شبه معدوم نتيجة الأزمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي عصفت بـ"إسلام أباد" بشكل غير مسبوق.

ورغم ذلك تبقى باكستان مصدر قلق للهند في ظل نشاط المجموعات الأصولية ومنها طالبان الباكستانية في المناطق الحدودية، إضافة إلى الخوف المتبادل من القدرات النووية في البلدين، حيث تمتلك الهند 140 قنبلة نووية فيما تمتلك باكستان 160 قنبلة بحسب موقع أرمز كونترول. كما في ظل وجود الخلاف الذي لم يعرف طريقه إلى الحل وهو موضوع كشمير ذات الأغلبية المسلمة والتي تطالب باكستان بضمّها إلى أراضيها. وتعدّ كشمير اليوم من أكثر المناطق المدججة بالسلاح في العالم.

بالمقابل، نجحت الصين في جذب تركيز الهند نحو الحدود المشتركة بين البلدين في جبال الهيمالايا، في وقت كانت تسعى فيه نيودلهي إلى فرض قوّتها البحرية في المحيط الهندي. أتى ذلك بعد فشل بكين في تحقيق أهداف "استراتيجية خطّ اللؤلؤ" الهادفة لبناء أسطول عسكري وتجاري صيني على طول المحيط الهندي.

على ضوء ما تقدّم، تشكّل إعادة تنظيم هيكلية القوّات المسلحة الهندية فرصة تاريخية للقيادة الجديدة من أجل حماية أراضي الهند من أيّ تواطؤ صيني - باكستاني محتمل. ويتمثّل المبتغى الأبرز من تنظيم وإعداد الهند لقوّاتها في السعي وراء شراكة أمنية أساسية مع الولايات المتحدة الأميركية ضمانة لأمنها الإقليمي، خاصّة وأن الولايات المتّحدة سبق وأن زوّدت الهند بالكثير من الأسلحة الحديثة.

في ظلّ مساعي الصين اللافتة للسيطرة على الساحة العالمية، هل ستتمكن نيودلهي من إثبات نفسها كثقل موازٍ لبكين؟ رغم النمو الإيجابي المتوقّع للهند في السنوات القليلة المقبلة، غير أن المهمّة التي تنتظر رابع أكبر جيش في العالم، ليست قريبة المنال... على ما يبدو.