الإصلاحات تبقى المدخل الأساسي لأيّ حلّ للخروج من الأزمة الحالية. وتحليل الواقع المالي والنقدي، يُشير إلى استحالة الاستمرار في هذا الوضع تحت طائلة الوصول إلى المحظور (صرف الاحتياطي الإلزامي، بيع الذهب!!).

يبدأ لبنان مرحلة جديدة من تاريخه الماليّ والنقديّ مع انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. وإذا كان الغموض الذي لفّ مشهد الحاكمية في الأسابيع الماضية حول تسلّم النائب الأول لحاكم مصرف لبنان وسيم منصوري مهام الحاكمية بالإنابة، يظهر أنّ هذا الغموض تمّت إزالته مع قبول الأخير تسلّم المسؤولية لحين تعيين حاكم جديد.

عمليًا الغموض انتقل إلى الواقع النقديّ (وبالتّحديد سعر صرف الليرة مُقابل الدّولار الأميركي) مع رغبة منصوري إلغاء منصّة صيرفة، وإلى كيفية تمويل الحكومة خصوصًا بعد طرح تمويل الإنفاق العام من أموال المودعين (الاحتياطي الإلزامي).

صعوبات كثيرة في الأفق

في الواقع ينتظر منصوري الكثير من التحدّيات وعلى رأسها كيفية إدارة المرحلة المقبلة نقديًا وماليًا (من باب تمويل الحكومة) :

أولًا – نقديًا، كيف للمصرف المركزي المحافظة على سعر صرف الليرة مُقابل الدولار الأميركي مع رغبة نوّاب الحاكم الأربعة إلغاء منصّة صيرفة وعدم تدخّل مصرف لبنان في السّوق؟ وقد تجلّت المخاوف أكثر مع إعلان نائب الحاكم الثالث إجراء مفاوضات مع بلومبرغ ورويترز لإنشاء منصّة بديلة عن منصّة صيرفة حيث لا يُمكن لمصرف لبنان التدخّل في السوق. وهنا تبرز المُشكلة الأساسية، فالمضاربون يمتلكون قدرة مالية توازي الـ 7 مليارات دولار أميركي وهي قدرة هائلة يستطيعون من خلالها أخذ السوق حيث يُريدون، سواء كان بهدف الرّبح أو خدمة لأجندات سياسية. وهي قدرة لا يُستهان بها وفي حال غياب المركزي عن التدخّل في السّوق، سيكون هناك فلتان كبير للدولار مُقابل الليرة اللبنانية. أيضًا هناك مُشكلة تهريب الدولارات إلى الخارج سواء كان من خلال الـ banknotes أو من خلال السّلع والبضائع التي يتمّ تهريبها وهو ما يعني أنّ هناك استحالة لضبط الكتلة النقدية بالدولار الأميركي.

ثانيًا – ماليًا (تمويل الحكومة)، المُشكلة الأساسية تظهر من حاجات الدّولة إلى العملة الصّعبة والتي تُقدّر بـ 200 مليون دولار أميركي. وتشمل هذه الاحتياجات أجور القطاع العام (بما فيها السّلك الديبلوماسي)، والإنفاق التشغيلي (محروقات...)، وبعض الأدوية المزمنة... وبالتّالي كان المصرف المركزي يقوم بشراء هذه الدولارات في السوق ويدفع ثمنها من الليرات التي تُجبيها الحكومة من الرسوم والضرائب المدفوعة كاش. وهذا يعني أنّ وقف منصّة صيرفة سيؤدّي حكمًا إلى استخدام الاحتياطي الإلزامي، وهو ما طالب به نوّاب الحاكم من خلال تشريع في المجلس النيابي. والظاهر أنّ الحكومة قامت بتحضير مشروع قانون يسمح للحكومة بالاقتراض من المصرف المركزي، والسماح للمصرف المركزي بتمويل هذا القرض من أموال المودعين، وفي المقابل ستتعهّد الحكومة بإعادة القرض إلى المصرف المركزي. بالطبع كلّ هذا لا يُبشّر بالخير نظرًا إلى أنّ الصّراع السياسي كبير وسينسحب بشكلٍ أو بآخر على الواقع الاقتصادي والمالي والنقدي. أضف إلى ذلك أنّ الدولة أعلنت التوقّف عن دفع قروضها سابقًا، فما الذي سيمنعها من الامتناع عن إعادة القرض الجديد؟

هذه الصعوبات يعيها النّائب الأول لحاكم المركزي (المعني الأول)، وتعيها الحكومة التي سُرّب عنها أنّ إيراداتها خلال الشّهر الجاري بلغت 21 تريليون ليرة لبنانية، وأنّ أجور الموظّفين في القطاع العام لشهر آب أصبحت مؤمّنة. هذا الخبر يطرح العديد من علامات الاستفهام حول فحوى وتوقيت هذا الإعلان خصوصًا مع الاستحقاق المُنتظر اليوم نهاية ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. فالأرقام المُتعارف عليها "علنيًا" أنّ إيرادات الخزينة تُقدّر بحدود الـ 20 مليون دولار أميركي شهريًا (المالية لم تنشر أداء المالية العامة منذ نهاية 2021) في حين أنّ ما تمّ التصريح عنه – أي 21 تريليون ليرة لبنانية هذا الشهر – يوازي 245 مليون دولار أميركي على سعر منصّة صيرفة. وهذا يعني أنّ موازنة العام 2023 البالغة 181 تريليون ليرة لبنانية يُمكن تغطيتها بثمانية أشهر فقط. وبالتّالي هذه الموازنة هي موازنة مُغلوطة! في الواقع نعتقد أنّ الحكومة تُريد من خلال هذا الخبر أن تبثّ جوّاً إيجابيًا يُرافق تسلّم نائب الحاكم الأول وسيم منصوري مهام حاكمية مصرف لبنان بالإنابة.

ثالثًا – الخلافات بين نوّاب الحاكم: تُشير المعلومات إلى أنّ هناك خلافات بين نوّاب الحاكم المركزي، وبالتالي ومع استلام نائب الحاكم الأول وانحسار عدد أعضاء المجلس المركزي إلى خمسة أعضاء، هناك مُشاكل ستظهر في قدرة نائب الحاكم الأول (الحاكم بالإنابة) لأخذ القرارات خصوصًا أنّ هذه الخلافات تطال تحرير سعر الصّرف.

هل يتمّ إلغاء التعميم 161؟

عمليّاً، التغييرات التي ستطال عمل منصّة صيرفة ستظهر في سعر الصّرف، ولكن أيضًا على التعاميم القائمة. فالمعلومات تُشير إلى أنّ التعديل الأوّل سيطال التعميم 161 (دولار كاش مقابل ليرة كاش) الذي من المرجّح إلغائه، وبالتالي سيتم حرمان القطاع الخاص من الدولارات وهو طلب سينتقل حكمًا إلى السّوق السوداء وسيرفع سعر صرف الدولار مُقابل الليرة. التّعديل الثاني سيطال التعميم 151 والذي سيتمّ رفع قيمة دولاره إلى حدود الـ 45 ألف ليرة خصوصًا إذا ارتفع سعر الصّرف في السوق السوداء. أمّا في ما يخصّ أجور القطاع العام فبحسب المعلومات سيتمّ الاستمرار بدفعها بالدولار على سعر منصّة صيرفة (في المرحلة الأولى – ستة أشهر؟) على أن يتمّ إلغاء هذا الأمر لاحقًا.

الحكومات المتعاقبة قامت بممارسات ضربت الوضع المالي والاقتصادي 

هل حان وقت الإصلاحات؟

تنفيذ الإصلاحات كان يجب أن يتمّ منذ العام 2001 مع مؤتمر باريس 1. بالطبع الخلافات السياسية والصراعات بين الأفرقاء أدّت ليس فقط إلى عدم الإجراء الإصلاحات، بل أنّ الحكومات المتعاقبة قامت بممارسات ضربت الوضع المالي والاقتصادي مثل الصرف على أساس موازنات إثني عشرية واعتمادات من خارج الموازنة...

الإصلاحات تبقى المدخل الأساسي لأيّ حلّ للخروج من الأزمة الحالية. وتحليل الواقع المالي والنقدي، يُشير إلى استحالة الاستمرار في هذا الوضع تحت طائلة الوصول إلى المحظور (صرف الاحتياطي الإلزامي، بيع الذهب!!). وإذا كان البعض يعتقد أنّ الباخرة التي ستحطّ رحالها في منتصف آب في المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة للبنان هي باب الفرج وستدّر على لبنان المليارات، فهذا الاعتقاد خاطئ لأنّ المجتمع الدولي لن يسمح بأن يصل ليد الدولة أي قرش بدون إصلاحات، أضف إلى ذلك الوضع المعيشي الذي لا يُمكن أن يستمر على حاله لحين بدء استخراج الغاز.

في الختام، تتحمّل الطبقة السياسية مسؤولية إجراء الإصلاحات المطلوبة اليوم قبل الغد رأفة بالشعب، خصوصًا أنّ هناك ملفّات إقليمية كبيرة قد يستفيد منها أعداء لبنان في ظلّ تردّي الوضع الاقتصادي والمالي والنقدي. في هذا الوقت، لا يُمكن الجزم بأنّ المرحلة القادمة ستكون خالية من المطبّات التي ستطال (كالعادة) الشعب اللبناني.