تمرّ أيّام "الأسبوع العالمي للتمريض"، ثقيلة على الممرّضات والممرّضين اللبنانيين. فالاحتفالات العالمية التي تقام هذا العام تحت شعار "ممرّضاتنا.. مستقبلنا"، تقابل محلّياً بواقع يكاد يكون مأساوياً لهذا القطاع المحوري في السلسلة الصحية، ومصيرٍ مجهول. وحده الرفض للواقع المهين، ومحاولة إزاحته عن صدورهم، من دون خدش البعد الإنساني للرسالة الانسانية التي يمثلونها، يضيئان شمعة الأمل بمستقبل أفضل.

أربع سنوات عجاف من إدارة أسوأ الأزمات العالمية، كانت كفيلة بخسارة الممرّضات والممرّضين 90 في المئة من دخلهم الشهري، وتعريتهم من الضمانات الصحية والاجتماعية، بمفارقة صادمة لأشخاص يفنون عمرهم للمحافظة على صحّة الآخرين. فمتوسط الدخل في هذا القطاع الذي يضمّ نحو 18 ألف ممرّضة وممرّض، انحدر من حدود 1000 دولار قبل العام 2020، إلى ما بين 50 و100 دولار حالياً. وباستثناء المستشفيات الجامعية الكبيرة، لم ترفع المستشفيات الخاصّة رواتب الموظفين، على الرّغم من دولرة الفواتير واحتسابها على سعر صرف قريب من سعر صرف السوق الموازية، مع بعض المراعاة أحياناً.

أمّا بالنسبة إلى العاملين في المستشفيات الحكومية البالغ عددها 33 مستشفى، فالوضع لا يقلّ سوءاً. إذ تقدّر الدولية للمعلومات "قيمة الرواتب الشهرية بعد الزيادات التي أقرّت للقطاع العام بـ 27.4 مليار ليرة، توزّع على 3829 موظفاً". ما يعني أنّ متوسّط الدّخل الشهري هو 7 مليون ليرة، أو ما يعادل 80 دولاراً على سعر منصة صيرفة حالياً. في حين أنّ قيمة رواتبهم الشهريّة في العام 2017 كانت تقدّر بستة مليارات و238 مليون ليرة، أي بمعدّل 1.5 مليون ليرة، أو 1000 دولار شهرياً لكلّ عامل.

هجرة بالجملة

هذا الواقع أخذ قطاع التمريض في لبنان باتجاهين خطيرين، بحسب ما تفيد نقيبة الممرّضات والممرّضين في لبنان د. ريما ساسين:

 الأوّل، هجرة ما يقدّر بـ 3000 ممرّضة وممرّض منذ بدء الأزمة. ويمكننا الاستدلال على هذا الرقم من خلال الإفادات التي يطلبونها من النقابة للعمل في الخارج.

الثاني، ارتفاع معدل المرضى على عاتق كل ممرّضة وممرّض إلى ضعف المعدّل العالمي المحدّد بسبعة مرضى. وهو الأمر الذي يخلق لهم ضغوطاً نفسية وجسدية ويعرّضهم لمشاكل صحّية.

ما يؤكّد على صحة تناقص أعداد الممرّضات والممرّضين هو تقدير الدولية للمعلومات نسبة الشغور في الكوادر البشرية في المستشفيات الحكومية، بنحو 55.8 في المئة، إذ يبلغ العدد الكامل للملاك 8546 موظفاً، مقابل وجود 3829 في الخدمة الفعلية. وبحسب ساسين فإنّ "السبب الأول لترك القطاع هو التدنّي الهائل بالرواتب وغياب الضمانات الصحّية، خصوصاً لأولئك المشمولين بتغطية الضمان الاجتماعي. وبرأيها "فإنّ أصحاب المستشفيات يتحجّجون دائماً بارتفاع أكلاف الطاقة، وشراء المعدّات، والمستلزمات الطبّية والأدوية.. لعدم زيادة الرواتب. ذلك مع العلم أنّ العدالة تقتضي توزيع الدولارات التي تتقاضاها المستشفيات من الأفراد وشركات التأمين بالتساوي. فما نفع المستلزمات الطبّية والآلات إن لم يكن في المستشفيات جسم تمريضي فعّال!

النضال الصعب

مخاطر الأزمة الاقتصادية لا تنحصر بانهيار قيمة الرّواتب والأجور فقط، إنّما باستسهال أرباب العمل صرف كلّ من يحاول الاعتراض والمطالبة بحقوقه، سنداً للمادة 50 من قانون العمل. وبدلاً من الواحد هناك عشرة ينتظرون على أبواب المؤسسات للحصول على فرصة عمل، في ظلّ وصول معدّل البطالة عند الشباب إلى 47.8 في المئة، بحسب إدارة الإحصاء المركزي. وعليه فإن "الظروف لا تساعد العامل الفرد بشكل عام على الدفاع عن نفسه"، يقول الباحث النقابي د. غسان صليبي. "خصوصاً في ظل وهن الحالة النقابية في البلد، وعدم تمكّن بعض النّقابات الفاعلة من الوصول إلى مطالبها رغم الضغط الذي تمارسه. وذلك على غرار نقابة موظفي أوجيرو، وبعض التجمّعات المهنية في قطاع التعليم". أمّا بالنسبة إلى نقابة الممرّضين التي تعتبر نقابة سلك "Ordre" فالوضع أكثر دقة برأي صليبي، "فعدا عن التنشئة "الدينية" التي يتربّى عليها الممرّضون والممرّضات، هناك اقتناع تام في صفوفهم بأنّ مهنتهم هي خدمة إنسانية تستوجب التضحية. وعليه ظلّت المطالبة بالحقوق طوال الفترات الماضية محصورة بتنظيم اللقاءات مع وزراء الصحة، والاجتماع مع مدراء المستشفيات. ولم نلحظ تبدّلاً جوهرياً في طريقة العمل النّقابي إلّا مؤخّراً. "حيث من المحتمل أن تكون الضغوط التي يتعرّض لها الممرّضات والممرّضون، وازدياد معدّلات الهجرة، وشعورهم بعدم المساواة في المعاملة مع الأطبّاء.. هي من العوامل التي دفعت إلى تغيير النّهج المتّبع"، من وجهة نظر صليبي. "فبدأت النّقابة تنظّم الصفوف على طريقة العمل النقابي الفعال، مع ما يعنيه ذلك من وضع المطالب والتفاوض والضغط من أجل تحقيقها. وللغاية تعمد النقابة إلى تجديد خطابها، وإدخال مصطلحات جديدة كـ"عقد العمل الجماعي"، وتدريب كوادرها على المفاوضة على حلّ النزاع الجماعي وتنظيم الوقفات الاحتجاجية أمام المستشفيات".


على الرّغم من كل ذلك "لا زلنا نرى عاملي الخوف وقدسية المهنة يتحكّمان بالمسار النضالي"، يقول صليبي . "وقد يكون السّبب وراء ذلك عدم وجود سند داخلي قوي، وغياب الحالة المطلبية الفعّالة، وصعوبة الخرق التي تواجهها وغيرها من النقابات والتنظيمات الفاعلة..  إلّا أنّ النضال لا يزال مستمراً، ونلمح طريقة تعاطي جديدة من قبل القيّمين على القطاع الصحي  من الوزير ومدراء المستشفيات".

في الأسبوع العالمي للتمريض نتوقف لحظة لنتذكر الدور الحيوي الذي تؤدّيه الممرّضات وكذلك الممرّضون في تشكيل مستقبل الرعاية الصحية. ولننقل الدعوة الأممية بتسليط الضوء على أهمية تبنّي سياسات تدعم مهنة التمريض وتحسّن النتائج الصحّية للمرضى.