لأنّه لا بدّ من تأمين توافق داخلي على انتخاب الرئيس سواء بمنافسة بين مرشّحين أو بالاتفاق على مرشّح واحد، تشابهت مواقف العواصم المهتمّة لتوفير المناخ المطلوب لهذا التوافق أو التنافس، فكلمة السر، أعطيت ولكن الجميع يحرص على عدم البوح بها.

ثبت بالوقائع ومن خلال كلّ التحرّكات الجارية السياسية والديبلوماسية محلياً ومع الخارج، أوّلا أنّ الاستحقاق الرئاسي موضوع على نار متوسطة، ستصبح حامية بعد القمّة العربية المقرّرة في السعودية في أيار الجاري. وثانياً أنّ هذه التحرّكات غايتها تمهيد الساحة الداخلية لإنجاز هذا الاستحقاق في حينه عبر تأمين الآليات الدستورية المطلوبة لهذا الغرض.

ولأنّه لا بدّ من تأمين توافق داخلي على انتخاب الرئيس سواء بمنافسة بين مرشّحين أو بالاتفاق على مرشّح واحد، تشابهت مواقف العواصم المهتمّة لتوفير المناخ المطلوب لهذا التوافق أو التنافس. المملكة العربية السعودية أعلنت بلسان سفيرها وليد البخاري أنّها تقف على مسافة واحدة من الجميع وأنّ لا "فيتو" لديها على أيّ مرشّح، ولا تدعم أيّ ترشّح، وأنّ على اللبنانين أن يتفقوا على رئيس لأنّ هذا الأمر شأن داخلي ولن تتدخّل فيه. بالتزامن نقل الموفد القطري السرّي والأمني موقفاً مفاده أن ليس لقطر مرشّح، على رغم تقديرها لقائد الجيش العماد جوزف عون، وقبلهما فرنسا التي أكّدت في بيان لوزارة خارجيتها أنّ لا مرشّح لديها، والولايات المتحدة الأميركية قالت أن لا مرشّح لديها وأنّها ستتعامل مع أي رئيس ينتخبه مجلس النواب اللبناني. وإيران أيضاً أكّدت أنّها لا تتدخل في انتخابات رئاسة الجمهورية لأنّها شأن داخلي متروك للبنانيين وحدهم.

التقاطع الخارجي حصل على رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية كمرشّح يعتبر الأكثر انسجاماً مع طبيعة المرحلة الإقليمية والدولية التي أطلقها الاتفاق السعودي - الإيراني

ولذلك، يقول قطب نيابي، أنّ التقاطع الخارجي حصل على رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية كمرشّح يعتبر الأكثر انسجاماً مع طبيعة المرحلة الإقليمية والدولية التي أطلقها الاتفاق السعودي - الإيراني، والانفتاح السعودي والعربي عموماً على سوريا الذي أنتج قرار مجلس وزراء الخارجية العرب الأخير بعودة سوريا إلى مقعدها، في جامعة الدول العربية كخطوة تسبق القمة العربية في الرياض، استعجلتها القيادة السعودية لكثير من الاعتبارات، أبرزها الحرص على أن تكون القمة جامعة ومحطّة مهمة بالنسبة إلى مستقبل التضامن العربي بعد التطبيع بين الرياض وطهران. فيما تفيد معلومات أنّ الرئيس السوري بشار الأسد سيزور الرياض الاثنين المقبل، ولم يعرف ما إذا كان سيبقى هناك للمشاركة في القمة.

"كلمة السر" يضيف القطب، أعطيت ولكن الجميع يحرص على عدم البوح بها، فالفريق الذي يعارض فرنجية ما زال يمنّن النّفس بإمكان تغييرها لمصلحة مرشّح آخر يكون من كنفه أو يتقاطع عليه الجميع، حتى إذا لم يتسنّ ذلك يذهب إلى القبول بفرنجية، أو عدم عرقلة انتخابه بحضور الجلسة ليتوافر نصابها، من دون أن ينتخبه منسجماً في ذلك مع موقفه الرافض. وحتى إشعار آخر تنطبق هذه الحال على كتل القوات اللبنانية و"التيار الوطني الحر" وحزب الكتائب وبعض النواب المستقلّين والتغييريين. وربما يكون المخرج، لكي لا يكون أحد من هؤلاء محرجاً، في أن يتفق هؤلاء على مرشّح أو اثنين يخوضان المعركة ديموقراطياً في وجه فرنجية، وليفز عندها من ينال أكثرية الأصوات في جلسة مكتملة النصاب في دورتيها.

أمّا الفريق المؤيد لفرنجية فإنه يستعدّ للعمل على تحقيق هدفين يوصلان إلى تأمين انتخابه:

ـ الأول، تأمين الأكثرية المطلقة لانتخابه، أي 65 صوتاً، إذا لم يتسن أن يكون هذا العدد أكثر من ذلك بقليل أو أكثر، والاهتمام هنا يتركز على اجتذاب كتلة رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط.

ـ الثاني، تأمين نصاب جلسة الانتخاب بجولتيها الأولى والثانية، وهو حضور 86 نائباً من اصل 128 وهو مجموع أعضاء المجلس النيابي. لأنّه شرط واجب لضمان فوز فرنجية بالأكثرية المطلقة من دون حاجة إلى أصوات إضافية.

ولذلك فإنّ التركيز في الاتصالات منصبّ على كتلتي "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية". ( 38 إلى 39 نائباً) ولكن لن يبدأ البحث مع أي من هذين الفريقين إلّا بعد ضمان أصوات الأكثرية المطلقة لفرنجية، فيما تبدو حركة كلّ من نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب والنائب غسان سكاف بمثابة محاولة لتحفيز الأفرقاء السياسيين، استعداداً لإنجاز الاستحقاق الرئاسي خلال الفترة الفاصلة عن موعد جلسة الانتخاب، التي سيدعو رئيس مجلس النواب نبيه بري إليها فور توافر كل متطلباتها الداخلية والخارجية في آن معاً.

ويكشف القطب النيابي أنّ تأمين الأكثرية المطلقة يعمل عليه بري في اتجاه جنبلاط، وما تيسّر غيره من كتل ونواب مستقلّين وحتّى تغييريين. أمّا تأمين النصاب فيعمل عليه حزب الله في اتجاه رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل. ولكن الحزب لن يفاتح الأخير بأي أمر لتغيير موقفه إيجاباً من ترشيح فرنجية إلّا بعد أن يلمس أنّ أكثرية الـ 65 صوتاً قد تأمنت مضمونة في يد برّي. إذ عندها سيبحث الحزب مع رئيس "التيار الوطنر الحر" في ما يريده من مطالب وضمانات في ظلّ عهد الرئيس المقبل، ومنها تحقيق اللامركزية الإدارية الموسّعة المنصوص عنها في "اتفاق الطائف" وإنشاء الصندوق السيادي لأصول الدولة، وكلاهما أمران لا يمكن الاختلاف عليهما مع باسيل وحتى مع جميع القوى، خصوصاً في ظلّ مطالبة الجميع باستكمال تنفيذ "اتفاق الطائف" وعدم المسّ به. وقد قال باسيل في مقابلته المتلفزة الأحد الماضي أنّه يؤيد أي مرشّح يلتزم فعلياً بهذين الأمرين وأنّ ما تبقّى بالنّسبة إليه يصبح من التفاصيل.

ويسود اعتقاد في أوساط المؤيدين لفرنجية أنّ المواقف التي أعلنها باسيل في حواره المتلفز هذا، لم تكن سلبية في المطلق وإنّما تفتح الباب لحوار جاد معه، خصوصاً أنّه قال أنّ وصول فرنجية هو بالمعنى السياسي الضيق من مصلحة "التيار الوطني الحر" لكنّه ركّز على برنامج الرئيس وقدرته على تنفيذه بالتعاون مع حكومة فعّالة.

إلّا أنّه وفي المقابل، فإنّ صوت الرفض لدى الفريق الآخر ما يزال عالي السقف، وأنّ أمر انخفاضه من عدمه يبقى مرهوناً بحقيقة موقف حلفاء هذا الفريق الخارجيين تحديداً، والذين أعلنوا انهم لن يتدخلوا في الاستحقاق الرئاسي ولن يضغطوا على أي فريق للقبول بهذا المرشّح أو ذاك، تاركين لهم حرية التصرف قبولاً أو رفضاً.

هل ما بدأته إسرائيل في غزة هو بداية الردود الأميركية ـ الإسرائيلية ـ الغربية على الاتفاق السعودي ـ الإيراني وعلى عودة سوريا إلى العرب؟

المتشائمون "الاميركيون"

غير أنّ سياسيين متشائمين يستبعدون انتخاب رئيس للجمهورية قريباً، منطلقين من اعتقادهم بأنّ الولايات المتحدة الأميركية لا تؤيد وصول فرنجية مستدلّين إلى ذلك من خلال رسالة رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الأميركي بوب ميننديز إلى الرئيس جو بايدن يؤكّد له فيها رفض انتخاب رئيس للبنان يكون استمراراً للرّئيس الذي سبقه.

وفي رأي هؤلاء، وبعضهم من المطّلعين على الموقف الأميركي، أنّ الموقف السعودي "لا يؤيّد" فرنجية، وأنّ اللاءات التي أعلنها السفير السعودي تدلّ إلى ذلك مداورة، فيما الجانب القطري يؤيد وصول قائد الجيش العماد جوزف عون. ويضيفون "أنّ فرنسا تؤيد فرنجية وكذلك إيران، ولكنّ الجميع ينسون حرب اوكرانيا بين روسيا والغرب وأنّ هذا الغرب لا يمكن أن يقبل بفرنجية لأنّه يعتبره حليفاً لقوى تقف في مواجهة الولايات المتحدة والدول الغربية في أوكرانيا وغيرها، بل يعتبرونه "المرشّح الأوّل والأخير".

ويقول السياسيون أنفسهم أنّ هناك "مشكلة كبيرة" بين الولايات المتحدة الأميركية والسعودية. كما أنّ هناك مشكلة بين دولة الإمارات العربية المتحدة وواشنطن بسبب انفتاحها والسعودية على روسيا ومساهمتهما معا في خفض انتاج النفط بنسبة عشرة في المئة على دفعتين. والموقف لأميركي المضمر من الاتفاق السعودي ـ الايراني، ينسحب على الانفتاح العربي على سوريا وعودتها إلى الجامعة العربية، وهو نفسه الموقف من سياسة "توحيد الساحات". فيما الخطر يلفّ مصير الرئيس التركي رجب طيب اردوغان خلال الانتخابات التي سيخوضها بعد أيام، وكل هذه مؤشّرات تدل إلى أنّ المنطقة كلها مقبلة على تطورات قد تكون خطيرة.

ويسأل هؤلاء: هل ما بدأته إسرائيل في غزة هو بداية الردود الأميركية ـ الإسرائيلية ـ الغربية على الاتفاق السعودي ـ الإيراني وعلى عودة سوريا إلى العرب وعودة العرب اليها، وعلى روسيا وحلفائها في حربها ضد اوكرانيا؟ وهل تسليط الضوء فجأة على مبنى السفارة الأميركية الضخم والشاسع في لبنان هو من قبيل المصادفة أو من قبيل عرض العضلات والقول "نحن هنا إن عدتم عدنا"؟

الجميع بات الآن ينتظر القمّة العربية التي ستنعقد في السعودية بعد 9 أيام، فبعدها ربما سيكون غير ما قبلها لبنانياً وعربياً وإقليماً ودولياً... ومن يعش يرى.