داود ابراهيم

قد يكون المخرج الوحيد ممّا نحن فيه إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ولكن ليس على طريقة بري ميقاتي طبعاً عبر التمديد للزمن نفسه، بل للبحث عن محطة يمكن الانطلاق منها بسلوك مختلف، للوصول إلى نتيجة مختلفة عن الواقع الراهن. ولكن الواقع الحالي يعيش أزمات بأوجه مختلفة، ولكل منها مسار لا بد من تتبّعه للوصول إلى تلك النقطة التي تتطلب قراراً مغايراً يمكن أن يؤدّي إلى تحقيق المصلحة العامّة التي نشتهيها كمواطنين لا كجماعات.

"ساعة بالزايد، ساعة بالناقص، ما خربت البلد" هو من الأمثال الشعبية التي ثَبُتَ عدم صحتها الذي رفع شعار بخصوص الكرامة والشعب العنيد، بالإذن من زياد الرحباني الذي كان أول من سَخِر من تعديل التوقيت في لبنان من أجل تعزيز القدرة الإنتاجية، مع العلم أن البلد ينتج أكثر ما ينتج أزمات وخلافات وتحريض. ولا بأس من الإقرار بأننا لسنا بشعب واحد طالما أن لا شيء يجمعنا سوى الواقع الجغرافي. إذا فالبلد خِرْبِت مع الساعة وقبل الساعة ونتيجة سلوك من اختلفوا على التوقيت من زاوية مواقعهم، لا من مدخل كونها أتت من خارج السياق ومن دون تمهيد أو دراسة مسهبة لتأثيراتها ونتائجها وارتباطها بمسائل تتعلق بالتوقيت العالمي والتقنيات ومهام شتّى، كما على مواعيد مسبقة يمكن إدراج العديد من المسائل الأخرى المتصلة بهذا الشأن ولا علاقة لها بالدين والمُتدينين.

إذاً هي أزمات مختلفة وليست قضية أزمة وحيدة، فهل من إجماع على تحديد الأزمات وتعريفها؟ هل ينظر اللبنانيون بعين واحدة إلى المحطات التي حتّمت وصولهم إلى حيث هم؟ لا داعي للإجابة. هي بلاد لم يحدد مواطنوها طبيعة علاقتهم بها أو بمحيطها حتى اللحظة. قسم كبير من اللبنانيين يعتبر نفسه من ضمن معسكر غربي في محيط معادٍ، مقابل قسم ليس بأقل منه يعتبر نفسه من ضمن الأمة الإسلامية، وحتى ضمن الأمة الإسلامية هناك أكثر من أصل وفرع، وما بين هذا وذاك تتناثر أقليات تتنازعها أفكار الهوية والوجود والذوبان.

إلى أي محطة تريد الجماعات اللبنانية العودة لبناء "وطن نهائي لجميع أبنائه" بحسب ما ورد في مقدمة وثيقة الوفاق الوطني-الطائف، فهل فعلاً يرغب جميع حاملي الهوية بنهائية هذا الوطن؟ أليست هناك جماعات كبيرة أو صغيرة تحلم بربط مستقبلها بمستقبل أكبر من حدود هذا الوطن الصغير؟ بوجود من يرفض فكرة الاستقلال ويحلم بالعودة إلى زمن السلطنة العثمانية، هناك من يحلم بدولة جبل لبنان التي لا تتسع لطيف مختلف عن طيف الجماعة. وهناك من يحلم بالوحدة مع سوريا أو بسوريا الكبرى أو حتى بدولة الأمّة.

حسناً ذهبنا بعيداً بالتاريخ، فماذا عن المحطات الأقرب نسبياً؟ هل نعود إلى زمن توطين اللاجئين الفلسطينيين وهل يمكن القول بأنهم لا زالوا يشكّلون جيش المسلمين؟ هل نعيد إحياء نظرية التشبّه بالدولة اليهودية للحديث عن دولة مارونية أو درزية؟ أم نرضي ذاك الحنين إلى زمن الانتداب الفرنسي أو الوصاية السورية؟ ماذا عن العهد الشهابي هل كان أفضل أم كنا سنقف ضد حكم المخابرات؟ محطة حكم المليشيات وحمل السلاح وحرب الشوارع والمتاريس والمحاور يبدو أنها تدغدغ أحلام البعض. أم من الأفضل أن نعود إلى زمن الحكومتين برئاسة العماد ميشال عون وسليم الحص وإلى أي مشروع من المشروعين يمكن أن ننضم بعدما شهدناه من أحداث؟ أم أن حقبة ما بعد الطائف والاستدانة وقضايا الهدر والفساد كانت الأفضل بحيث اغتنى من اغتنى وافتقر من افتقر؟ ماذا عن مرحلة ما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، هل هو مشروع 8 أو 14 آذار الذي سيقع عليه الخيار؟

كثيرة هي المحطات المفصلية التي يمكن اعتمادها لنعيد كتابة تاريخنا بطريقة توصلنا إلى حالة أخرى، ولكن هل إعادة عقارب الساعة إلى الوراء هو قرار يحظى بالإجماع أو أقلّه بدعم الأكثرية؟ وهل من محطة تاريخية نتفق عليها كمفصل للبناء عليه، وهل نتفق على شكل البناء الجديد وتفاصيله؟

صحيح أن الشعوب تتعلّم من أخطائها، إلّا أن المسألة تكمن في تحديد ما هو خطأ وما هو صح. اللبنانيون يضعون من قضى في حروبهم الداخلية بمواجهة بعضهم بعضاً، بمصاف الشهداء ويضعون من قضى على جبهة الخصوم بمنزلة العملاء. ويتحول الجميع إلى شهداء وعملاء في الوقت نفسه. حليف هذا الطرف عدو الطرف الآخر. والآخر دوماً هدفاً للشيطنة، مادة للتحريض والتخويف والحشد. لم نصل إلى التوحد حول مصابنا، رغم كل ما مر بنا من حروب داخلية وخارجية، وكل ما مررنا به من أزمات من تهجير إلى تفقير إلى مديونية فإفلاس. لا زلنا على استعداد لهدر دم بعضنا البعض تمسكاً بخطأ أو بانتقاد على خطأ.

الأزمات تجمع إلّا في لبنان. صحيح أن الكل يعاني من هذا الواقع المتردّي على كل الصعد، ولكن المعالجة تتم بحسب انتماء الجماعات وداعمي صمودها. ويتحوّل الدعم إلى مزيد من التبعية وترتفع الجدران بين الجماعات، كل يداري على واقعه. الأزمات في لبنان هي مادة اتهام متبادل أما المسؤول عنها فهو من يقف على الضفة الأخرى حتماً. وهذا الواقع من الإنكار ومن التهرب من تحديد وتحميل المسؤولية وتجهيل الفاعلين الحقيقيين لا يمكن أن ينتهي إلّا بالمزيد من الإحساس بالحقد وبالغبن، وتتم ترجمة كل هذا بصفعة من هنا وإهانة من هناك.

فهل من داع لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء إن لم نتفق على نقطة بداية واعدة وجامعة؟ لا أظن أحدنا سيملك جرأة الإجابة على هذا السؤال.