طارق ترشيشي

منذ التوصل إلى الاتفاق السعودي ـ الإيراني برعاية الصين على تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وايران، بدا لبنان، أو هكذا أرادت بعض قواه السياسية، كأنه مضبوط على توقيت هذا الاتفاق الذي أعطى طرفاه نفسيهما شهرين لتنفيذه، من دون ربطه بتوقيت الشتوي أو الصيفي الذي شغل اللبنانيين في أسبوع من المماحكات والاستنفارات الطائفية المقيتة، فكأن التوقيت في لبنان صارت له هوية طائفية ومذهبية وعقارب تلدغ بسمومها الجسم اللبناني المتهالك بكل أنواع الأزمات والأمراض.

فالاتفاق السعودي ـ الإيراني الذي يفترض أن ينهي عداوة دامت عشرات السنين بين الرياض وطهران، يفعل فعله في لبنان منذ الإعلان عنه، إذ ما من فريق من الأفرقاء السياسيين إلّا ويضرب "الأخماس بالأسداس" قلقاً على المصير أو خوفاً من أن تأتي مفاعيل هذا الاتفاق على حسابه. ولذلك فإن غالبية هؤلاء يتصرفون على وقع هذا الاتفاق، غير عالمين بعد بما سيكون له من موجبات أو متطلبات لبنانية، مثلما سيكون له متطلبات سورية وعراقية ويمنية وغيرها، وهي ساحات لطالما تنازع عليها السعوديون والإيرانيون ولا بد أن "اتفاق بكين" سيشملها كبؤر نزاع أو توتر لإعادة تطبيع الاوضاع فيها، لأن التطبيع بين الرياض وطهران ليس محصوراً بجغرافيّة البلدين وإنما يشمل أيضا جغرافيا المناطق التي تتنازعان فيها منذ زمن طويل.

ويرى المتتبعون لمرحلة ما بعد "اتفاق بكين" أن جميع الأفرقاء اللبنانيين قلقون، لأنهم لم يدركوا طبيعة بنوده السرية بعد، لكن الأكثر قلقاً بينهم ليس "الثنائي الشيعي" وحلفائه، وإنما الفريق المعارض الذي يدرك أن الإيراني ليس وحده البراغماتي في الساحتين الإقليمية والدولية، وإنما السعودي أيضا لديه براغماتيته التي يحقق من خلالها مصالحه.

ولذلك، يقول معنيون، أن الضجة التي افتعلت على خلفية تأجيل العمل بالتوقيت الصيفي، ليست إلّا انعكاساً للتنافس الدائر على حلبة السباق الرئاسي والذي سينطلق وفق توقيت الاتفاق السعودي ـ الايراني، ولذلك لم يجد البعض غضاضة في إجراء مناورات في فترة الوقت الضائع، ولكن هذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن لحظة الحسم والقرار على مستوى الاستحقاق الرئاسي وتوابعه بدأت تقترب يوماً بعد يوم، وأن القرار بالحل متخذ منذ ما قبل "اتفاق بكين" وقد دخل في مرحلة التسويق تمهيداً للإخراج.

فالأفرقاء المسيحيون، (وتحديداً "القوات اللبنانية" و "التيار الوطني الحر" ككتلتين مسيحيتين كبيرتين) عاجزون حتى الآن عن التوحد أو الاتفاق على موقف موحد ازاء الاستحقاق الرئاسي ترشيحاً واقتراعا، والمفارقة أن "القوات" وبعد زيارة السفير السعودي لرئيسها الدكتور سمير جعجع وحديثه عن ضرورة انتخاب "رئيس سيادي انقاذي" ذهبت إلى الاجتهاد خارج النص، وإعطاء تفسير لهذا الموقف يوحي أن الرياض تضع "فيتو" على فرنجية أو أي مرشح آخر يشبهه، فيما البخاري لم يقل ذلك، وسرّب البعض في اليوم التالي عبر بعض وسائل الإعلام ان اللقاء في مضمونه لم يكن مريحاً لـ"القوات" ما دلّ إلى ان ما دار فيه ربما كان عكس ما اشيع بعده عبر إعلام "القوات". كذلك دلّ إلى ان الرياض لم تدخل في الترشيحات الرئاسية.

أمّا على جبهة "التيار الوطني الحر" فالموقف يأخذ أبعاداً أخرى، وهو يكاد ينأى عن كل الترشيحات، فيما يسر رئيس التيار النائب جبران باسيل لبعض القريبين منه أنه سيكون "المرشح الجدي" لرئاسة الجمهورية بعد ثلاثة أشهر حيث يتوقع أن ترفع العقوبات الأميركية عنه خلالها.

رسالة اميركية

وفي ظل هذه الاجواء جاءت زيارة مساعدة وزير الخارجية الاميركية لشؤون الشرق الاوسط باربرا ليف للبنان في ختام جولة لها في المنطقة، لتسلّط الضوء على حقيقة الموقف الأميركي مما يجري في لبنان، وعلى مستوى الاتفاق السعودي ـ الإيراني. ويقول أحد النواب الذين التقتهم ليف لـ"الصفا نيوز" أنها حملت رسالة من ثلاثة بنود ولا رابع لها وهي:

ـ أولاً، يهمّ الولايات المتحدة الأميركية أن يتم انتخاب رئيسس للجمهورية اللبنانية في أسرع وقت.

ـ ثانياً، يهمّ الولايات المتحدة الاميركية انتظام عمل المؤسسات الدستورية بتأليف حكومة فور انتخاب رئيس للجمهورية، ذلك منعاً لانهيار هذه المؤسسات.

ـ ثالثاً، الولايات المتحدة تخشى انهيار لبنان في ضوء ما احتواه تقرير صندوق النقد الدولي من معطيات خطيرة تثير القلق.

ويؤكد هذا النائب أن ليف التي التقت خمسة من النواب السنة المستقلّين لم تركّز في حديثها مع من التقتهم على اسم مرشح معين لرئاسة الجمهورية، مؤكدة أن واشنطن لا تطرح أي مرشحين لأن هذا الأمر من شأن اللبنانيين وأنها ستتعامل مع أي رئيس ينتخب، وأنها على تعاون مع باريس والرياض في هذا الصدد.

وسألت ليف عن الآلية التي ينتخب بموجبها رئيس الجمهورية، فأكد لها محدثوها أن هناك توازناً دقيقاً وصعباً في مجلس النواب لأن أي فريق ليس لديه أكثرية نيابية لتأمين فوز مرشحه، وبالتالي فأي مرشح عليه أن ينال أصواتاً من ثلاث كتل نيابية كبيرة موجودة حتى يضمن فوزه، وهذا غير متوافر لأي مرشح حتى الآن.

وذكرت ليف لمن التقتهم أن المعطيات التي توافرت لديها تشير إلى أن حوار الحكومة مع صندوق النقد الدولي ليس شفافاً، وفي ظل الفراغ الرئاسي ووجود حكومة مستقيلة فإن هذا الأمر لا يساعد على التوصل إلى اتفاق مع الصندوق، وأنه بات لدى واشنطن شك في ضوء الملاحظات الكثيرة التي اطلعت عليها في أن خطة التعافي التي أعدّتها الحكومة هي لحماية المنظومة السياسية القديمة وليس لتحقيق الإصلاح المنشود.

أما في ما يتعلّق بالاتفاق السعودي ـ الإيراني فأكّدت ليف عندما سُئلت عنه أن واشنطن ترحّب به لما يمكن ان يحققه من هدوء واسقرار في المنطقة، مشيرة إلى وجود تفاصيل كثيرة فيه، وأن تأثيراته على لبنان ستأخذ بعض الوقت، ولكن على اللبنانيين المبادرة إلى انجاز الاستحقاقات وتنفيذ خطط الإصلاح والإنقاذ المطلوبة داخلياً ودولياً حتى يتلقى لبنان الدعم اللازم.

بيد أن اتصال الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الأحد الماضي بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والذي تناول الشأن اللبناني على حد ما أُعلن رسمياً، ولّد انطباعا بأن ارهاصات الحل في لبنان بدأت بالظهور وأن الجانبين السعودي والفرنسي عاقدان العزم على إنجازه خلال أسابيع وقبل انعقاد القمة العربية في 19 ايار المقبل في السعودية، والتي دعت الرياض تركيا وإيران إلى المشاركة فيها بصفة مراقب، وبعد أن يكون الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي لبّى دعوة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز لزيارة المملكة خلال شهر رمضان الجاري على الأرجح.