داود إبراهيم

يأتي حراك رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي خارجياً في توقيت دقيق للغاية وله مدلولاته الكثيرة، خصوصاً في ما يتصل بانتخابات الرئاسة في لبنان. فهل يراهن ميقاتي على إمكانية توليه رئاسة الحكومة مجدداً في حال لم يحالف الحظ صديقه المرشح سليمان فرنجية بحصد التوافق الخارجي على اسمه وتذليل العقبات الداخلية؟

ميقاتي الذي يحظى بدعم الثنائي الشيعي داخلياً وعدم ممانعة من فرقاء كثر على الساحة المحلية، يتمتّع بمظلة فرنسية عبّر عنها الرئيس مانويل ماكرون في أكثر من مناسبة، وتربطه علاقات جيدة بلاعبين كثر على الساحة الخارجية، وفي زمن ليس ببعيد كان مقرّباً من آل الأسد في سوريا.

الاستشارات النيابية الملزمة قبل انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون وبعد انتخاب المجلس النيابي الجديد أسفرت عن تسمية ميقاتي لتشكيل الحكومة. قد يكون هذا الأمر مؤشراً لما يتمتع به من حظوظ. رغم أن منافسه الأقرب السفير نواف سلام حصل على أقل من النصف بقليل مما حصل عليه ميقاتي، إلّا أنّ المسألة تبقى معلقة بالنواب الذي امتنعوا عن تسمية أحد، وعددهم كان يمكن أن يغيّر في ما آلت إليه الأمور.

فهل يعود ميقاتي رئيساً للحكومة في عهد الرئيس الجديد؟ الإجابة على هذا السؤال تستوجب رصد موقف المملكة العربية السعودية وتغيراتها بعد استئناف علاقاتها الدبلوماسية مع الجمهورية الإسلامية في إيران، ومندرجات الاتفاق الذي رعته بكين.

إذا كان حجم تمثيل فرنجية مسيحياً هو العقبة الداخلية التي تعرقل وصوله إلى الموقع المسيحي الأول في البلاد، فالأمر مختلف بالنسبة لميقاتي ليس بالنظر إلى حجم تمثيله سنياً بقدر غياب من يمثّل الطائفة أكثر. وكما هو معلوم فإن تجربة الابتعاد عن السلطة مقلقة جداً لمن يمارسها، ولا يبدو أن ميقاتي مستعد لتقبّل نفس المصير الذي أصاب رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، فالابتعاد عن الموقع يعني خسارة الكثير. هكذا هي الحياة السياسية في لبنان.

يرى البعض في لبنان أن ميقاتي يمكن أن يلعب الدور نفسه الذي لعبه الرئيس رفيق الحريري في أولى حكوماته. مستنداً إلى علاقاته الخارجية ولاسيما تلك المتصلة بعالم المال والاقتصاد والشركات، وتحت شعار النهوض من الأزمة والعمل على معالجة الأوضاع في لبنان، مع تسهيل مرور من حزب الله، لإطلاق عجلة الاقتصاد مع ضمانات أمنية.

صحيح أن زمن الرئيس رفيق الحريري كان مختلفاً من نواحي عدّة، إلا أنّ الأمر يبدو للبعض الآخر وكأنه عشية اتفاق الطائف. وصحيح أن لبنان لا يحلّق إلا بجناحيه المسلم والمسيحي، إلا أن الطائف أتي بتسوية لصالح جناح على حساب آخر. وهو ما تلوح بوادره اليوم أيضاً. الجناح المسلم يبدو بوضع جيد إن احتسبنا ميقاتي والثنائية الشيعية في صف واحد. أمّا الجناح المسيحي فرغم توحده على رفض خيار فرنجية لرئاسة الجمهورية إلّا أنه منقسم حول هوية البديل.

كان ميقاتي يواجه مشكلة تتمثل بانعدام فرصه ترؤس الحكومة المقبلة في حال كانت الرئاسة من نصيب صديقه فرنجية، ليس لأن فرنجية لا يريد، بل هو يتمنى، ولكن لأن اللعبة السياسية تفترض أن يكون الرئيس من جهة ورئيس الحكومة من الجهة المقابلة. رغم أن هذا السيناريو الذي كان مطروحاً من قبل أي من طرف معني بالانتخابات الرئاسية اللبنانية، والأطراف هنا داخلية وخارجية وإلا فلا إمكانية لتحقيق أي خرق أو بوادر نهوض. إلّا أن مشكلة ميقاتي قد تجد طريقها إلى الحل كلّما تراجعت حظوظ فرنجية الرئاسية، بحيث قد يكون ميقاتي تعويضاً عن خسارة فرنجية بالنسبة للثنائي الشيعي وحلفائه.

والسؤال داخلياً ماذا عن باقي الفرقاء؟ خطوط ميقاتي مع القوات اللبنانية لم تنقطع، وخصومته مع رئيس التيار الوطني الحر وجبران باسيل تسهم في تعزيز هذا التواصل الذي يمكن أن تجني منه القوات حصة وزارية وازنة في حال لمست عدم ممانعة خارجية لتسميته رئيساً للحكومة.

على ضفة التيار قد تأخذ الأمور طابعاً أكثر حدّة، فالتيار وإن بدا وكأنه حقق نجاحاً في حال عدم وصول فرنجية إلى موقع الرئاسة، إلّا أنه لم يحقق مكاسباً من هذا لأمر. وحكومة يسمّي ميقاتي وزراءها لن يكون له حصة فيها، وهذا ما أكدته التشكيلات الحكومية التي قدمها ميقاتي للرئيس عون ولم تحظ بموافقته ما حال دون تشكيل حكومة حتى نهاية العهد. ولكن التيار ليس بوارد تسمية ميقاتي وهو أصلا يستعد ليقود جبهة المعارضة في العهد الجديد.

في ما يتصل بزعيم الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط لا مشكلة بينه وبين ميقاتي رغم أن كتلته سبق أن سمت السفير سلام في المرة الماضية إلا أن المر كان في ظل التنافر السعودي الإيراني والضغط الدولي على لبنان، وفي حال تم التوافق على رئيس للجمهورية من خارج الاصطفافات المحلية قد يقف جنبلاط في صف حليفه رئيس المجلس النيابي نبيه بري في تسمية ميقاتي، حاصداً حصة الطائفة الوزارية.

أما على مقلب التغييريين وبعض النواب المستقلين أو "المستقبليين" السابقين، فكما بات معلوماً لا وجهة موحدة لهؤلاء، ويقول خصومهم أنهم ينتظرون ما ستؤول إليه الأمور خارجياً ليعيدوا تموضعهم الداخلي. وأياً كانت خيارات هؤلاء فلا يبدو أنها تلتقي مع خيارات باقي الفرقاء المحليين.

ميقاتي ليس ببعيد عن اللاعبين الدوليين على الساحة اللبنانية، فإن أثمرت ورقة التفاهم السعودية الإيرانية تقارباً حول الشأن اللبناني أقله لجهة خفض التوتر للحد من التدهور الحاصل فيحتمل أن تكون بديلة عن ورقة التفاهم الداخلي بين حزب الله والتيار، والتي لم تتكلّل لا بالاتفاق على ترشيح فرنجية، ولا بالتوافق على تسمية ميقاتي.

أمّا عن الذي تنتظره السعودية من ميقاتي للقبول به رئيساً للحكومة في لبنان، وهي الدولة التي تحولت منذ زمن إلى حاضنة للطائفة السنّية الممثلة بموقع رئاسة الحكومة، وموقفها من سعد الحريري خير دليل على تأثرها في هذا الشأن، فالأمر رهن بإمكانية تساهلها مع المواصفات التي كانت حددتها قبل "بكين" للرئيس في لبنان مع ما يستتبعه الأمر من تكليف وتشكيل حكومة.

رئيس من خارج الطبقة السياسية التقليدية مع رئيس للحكومة يمثل امتداداً للنهج السابق يمكن أن يكون مخرجاً للجميع. ولا يبدو بالإمكان القطع مع التركيبة التي حكمت البلاد طويلا من دون مرحلة انتقالية. فهل تكون حكومة برئاسة ميقاتي آخر تجارب الطبقة السياسية التي حكمت لبنان طويلاً؟ أم أن ما طُبِخَ في الخارج لا يمكن أن يكون صالحاً للمطبخ اللبناني الذي بدأ يفقد طعمه مع ارتفاع أسعار مكوناته الجنوني ومن دون سقف؟ هل يعود ميقاتي من جولته الخارجية رئيساً لحكومة العهد الجديد، هنا يكمن السؤال الأخير.