الصفا

لا تعتقد شخصية مارونية بارزة أن حوار بكركي سيلتئم أو أنه سيصل في حال نجحت المساعي بالتئامه "إلى صيغة حلّ ما لوجود تضارب مصالح". يريد سليمان فرنجية الاجتماع بالقيادات المارونية البارزة للتشاور معها بشأن ترشيحه، بينما يريد رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع دعوة النواب المسيحيين لاختيار الرئيس المسيحي وفرض الخيار على البقية، بينما ينصح التيار الوطني الحر بالحوار للاتفاق على مرشح، والتشاور بشأنه مع الشركاء في الوطن لاعتباره أنّ فرض المرشح يغذّي الفكر التقسيمي الذي ترددت الدعوة إليه في الآونة الأخيرة. ليس لبكركي اليوم ولا كانت لها الكلمة الفصل في الرئاسة.

بدأت قصة حوار بكركي بطلب تقدم به التيار عقب زيارة رئيسه إلى البطريرك بشارة بطرس الراعي الذي استمهل أسبوعين للردّ. بعدها استظل الراعي رؤساء الطوائف المسيحية البطاركة الذين فوّضوه عقب اجتماعهم الدعوة إلى حوار من أجل الرئاسة. فارتأت بكركي دعوة 64 نائباً إلى الاجتماع بهدف الخروج من المراوحة بانتخاب ورقة بيضاء في جلسات الإنتخاب البرلمانية. لكن القوات اقترحت وضع صندوقة اقتراع ودعوة المجتمعين للتصويت لمرشح ومن ينال الغالبية يعتمد إسمه كمرشح المسيحيين في مجلس النواب ما فسّرته قوى مسيحية على أنّه محاولة لنسف الفكرة من أساسها.

لم تنجح محاولات سيد بكركي ومساعيه في رأب الصدع المسيحي. بسبب الخلافات المسيحية والمناطقية الزغرتاوية على وجه الخصوص تراجعت بكركي عن مسعاها في جمع المسيحيين والتفاهم فيما بينهم على كلمة سواء رئاسية، أو أن مساعيها جمدت في الوقت الحاضر. فشل النواب في أداء دورهم وانتخاب رئيس للجمهورية فتحركت بكركي، واستقت مبررات حراكها من هذا العجز وعينها على الفراغ الرئاسي المتمادي، بينما البلاد وصلت حدّ الإنهيار على كل المستويات.

لا اللقاء النيابي المسيحي الموسّع كان ممكناً عقده ولا جمع الأقطاب الموارنة الأربعة جبران باسيل، سليمان فرنجية، سامي الجميل وسمير جعجع، والسبب الشروط والشروط المقابلة، بحيث بات يعتقد كل طرف أن الإجتماع يجب أن يفصّل على مقاسه السياسي وبما يتناسب ومصلحته، وإلا فلا همّ أن يصار إلى كسر إرادة بكركي من قبل المسيحيين الموارنة تحديداً. طروحات عدة تم التداول بشأنها لتأمين لمّ الشّمل المسيحي كلها باءت بالفشل. خائف الراعي على الصيغة اللبنانية وعلى ضياع الرئيس الماروني الوحيد في العالم العربي. همّ البطريرك كبير حتّى لم يجد من يلاقيه إلى هواجسه المسيحية.

تقول مصادر متابعة إن محاولة جمع النواب المسيحيين فشلت نتيجة موقف القوات اللبنانية. خلال زيارتها بكركي على رأس وفد اقترحت النائب ستريدا جعجع تصويت المجتمعين في بكركي، ومن ينال غالبية أصوات الحاضرين يكون هو المرشح الرئاسي، والانتقال بالإسم إلى مجلس النواب لانتخابه بعد أن يكون أمراً واقعاً ملزماً لبقية الطوائف.

رفضت بكركي الاقتراح كما رفضه فرنجية خاصة والتيار، ليتبيّن أنّ الهدف المخفي منه التصويت لميشال معوض فينال أعلى نسبة أصوات، أو ترشيح قائد الجيش العماد جوزف عون لإحراج فرنجية وباسيل وإخراجهما من السباق الرئاسي. القوات ذاتها عادت وعرضت أن يكون الحوار ثنائياً أي أن تتحاور القوات مع الكتائب في بكركي، بينما يلتقي فرنجية مع باسيل في إجتماع ثنائي، فرفض الراعي أيضاً. ترفض القوات أي لقاء يجمعها مع رئيس التيار، وفي اعتقادها أنّ أيّ اجتماع مماثل سيمنح ورقة لباسيل المأزوم في علاقته مع حليفه الشيعي.

المشكلة مسيحية بالدّرجة الأولى. يخوض جعجع معركته إلى نهايتها مانعاً وصول مرشح المحور الثاني إلى الرئاسة. يرفض بالمطلق ترشيح فرنجية ولن يوفر نصاباً لجلسة مضمونة النتائج لأجله حتى ولو طلب منه ذلك. وهل يتخلى عن إبن زغرتا المرشح ميشال معوض لأجل مرشح آخر من زغرتا؟

 بالموازاة يرفض باسيل الإجتماع مع سليمان فرنجية كمرشح، بينما يقبل أن يلتقيا لاختيار مرشح ثالث غيرهما.

ومن الاقتراحات التي قدمتها بكركي أيضاً أن يصار إلى تقديم خمسة أسماء لمرشحين، ويتم التصويت لهم في مجلس النواب، والفوز لمن يصمد وينال النسبة الأكبر من الأصوات.  يرفض البطريرك الراعي إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وتكرار التجربة الفاشلة بتسمية مرشح رئاسي. في جعبته أسماء مختلفة عن تلك المتداولة، بينها أسماء قد تحظى بموافقة حزب الله، وتفضّل مصادر مطّلعة عدم البوح بها منعاً لحرقها.

فشل الرهان على الإجتماع لم يلغِ إصرار سيد بكركي على تكرار المحاولة إنقاذاً للجمهورية تقول أوساطه، وهو لن يدعو إلى أي اجتماع ما لم يكن ناضجاً ومضمون النتائج، لا مجرد جلسة روتينية تنتهي مفاعيلها عند عتبة الصرح البطريركي.

سبق لبكركي أن خاضت حواراً من أجل الرئاسة فاجتمع عام 2017 البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير مع القادة الموارنة، كل على حدا، بهدف   التّوصل إلى اتفاق في ما بينهم على رئيس للجمهورية يخلف الرئيس إميل لحود حينها، لكن الإتفاق لم يتم.

تاريخياً لم تكن بكركي ناخباً رئاسياً بل كانت تغطّي الرئيس وتتصارع معه. منذ  الإستقلال ولغاية اليوم كانت العلاقة صدامية بينها وبين الزعامات المسيحية. كان كميل شمعون خصماً قوياً للبطريرك بولس بطرس المعوشي لدرجة أن الشمعونيين سمّوه محمد بطرس المعوشي. وفي فترة بشير الجميل قيل أن أصل البطريرك أنطوان بطرس خريش فلسطيني. تصارح البطريرك صفير مع أمين الجميل واختلف معه على اختياره ميشال عون لحكومة انتقالية، ثم مع إميل لحود، إلى ان حصلت الانتخابات عام 2005 وسلّمت الكنيسة بانتخاب ميشال عون قائلة "لقد وجد المسيحيون زعيمهم". والصراع ما بين الكنيسة المارونية والمارونية السياسية كان صراعاً تقريرياً. يتعامل الموارنة مع الكنيسة كمرجعيّة ويتغطّون بعباءتها متى توافق ذلك مع مصالحهم، وإلا كان اتجاههم دولة مدنية. وللمفارقة التي تلحظها الشخصية المارونية البارزة أن الكنيسة تقوى متى كان السياسيون في حالة ضعف، ومتى كانوا أقوياء ضعفت واتفقوا عليها.