مرة أخرى، تُطرح الخرائط على الطاولة، و "بِجَرّة قلم"، قد يسهل رسم خطوط، تعديل حدود، تقسيم دول وتشكيل أخرى. إنما الأهم يبقى حامل القلم! لكن يكمن الخطر في أن خريطة لبنان من ضمن الخرائط المطروحة على طاولة الرسامين وقد يعاد رسمُها ضمن حدود مختلفة، قد تكون على الأرجح أضيق من الحالية، والرسامون جهاتٌ فاعلة رئيسية في الشرق الأوسط، بينما حكومته غائبة، وغير مدعوّة للانضمام بسبب واضح هو انقساماتها الداخلية التي تظهرها ضعيفة ومفككة. ربما لبنان منقسم داخلياً، وقد يظهر انقسامه على الخرائط وكأنه مُقسّم بالفعل وفق خطوطه الطائفية.
بما أن التاريخ يتحرك بفعل القوة، بعد أن أرست معاهدة وستفاليا عام 1623 مفهوم الدولة-الأمة، ووفقا لمعايير التوزيع العرقي والديني والطائفي، سعت الدول إلى التوسع من خلال اكتساب القوة. دولة إسرائيل تتبع هذه المفاهيم ودلت التجارب أن الوضع الأنسب لها هو السلام لكن مع حدود مطاطة تسعى باستمرار الى توسيعها كلما سنحت الفرصة أو كلما تصرفت الدول الفاشلة التي تحيط بها ومنحتها العذر الأمني والحجة الكافية لذلك.
التصاريح الحديثة التي استمعت إليها شعوب المنطقة مؤخرا، مخيفة، من الرئيس ترامب خلال حملته الانتخابية قائلا إن مساحة إسرائيل صغيرة و يجب توسيعها، مضيفا رغبته بضم الغرين لاند و كندا إلى الولايات المتحدة، إلى نبيه بري، الرئيس الأوحد لمجلس النواب اللبناني منذ 1993، مصرحاً في بداية "الثورة" السورية عام 2011، قائلاً إن الحرب السورية يمكن أن تنتهي بضم الجولان الدرزي إلى إسرائيل والاعتراف به، وفصل السويداء وتقسيم لبنان في حال انتصار "الثورة" في الحرب مروراً بكلام سيد "حزب الله" السابق حسن نصر الله متنبئاً إن "خسارة سوريا ستكون بداية عملية تقسيم الشرق الأوسط بأكمله" الى الكلام قبل الأخير للموفد الأميركي توم باراك متكلماً عن "بلاد الشام". من خلال ما سبق، يمكن التكهن بسهولة أن مصير لبنان الكبير بخطر و لن يميل طبعاً الى التوسُّع إنما الى التقلُّص.
إذا، بالعودة إلى التصريحات أعلاه، يجري إعداد الأرض. فالكلام دليل النوايا ومقدمة تحضيرية للنفوس لتغييرات على ارض الواقع. أليس لدينا الحق أن نتخوف من ضم طرابلس إلى سوريا، أو جبل الشيخ، و"أرض الدروز" السورية، وربما الجليل الأعلى (جنوب لبنان) إلى إسرائيل؟ قد يستمر المرء في التذمر أن هذه الأمور انتهاكات سافرة للسيادة اللبنانية، التي لنعترف بذلك ليس فقط لم يحرسها حارسها الأول، بل كان من أول المتآمرين عليها بكل ما يعنيه ويوحيه ذلك، إرضاء لأسياده الخارجيين السابقين الساقطين.
ولكن سواءٌ صحّ هذا أم لا، فإن نظامنا يحمل في جذوره أسباب تفكّكه. ومع أن برّاك حاول أن يصحّح الانطباع الذي تركه كلامه وتقديم تفسيرٍ مختلفٍ، أو تقديم تبرير كمثل سوء تقدير في اختيار الكلمات، فإن أصداء تصريحاته ما زالت تترك مرارة وخوفاً في النفوس.
هذا الوضع يفتح الباب أمام ثلاث مساراتٍ للتحرك:
الأول: اعتبار برّاك متسرعاً في كلامه الأول وردد كلاماً أتاه بالصدفة أمام الصحافة وصرح كلاماً من وحي اجتماعات مغلقة متشائمة حول مستقبل البلد دون أن يُقيّم مفعول كلامه سياسيّاً وأخلاقيّاً، هو المنحدر من أصل لبناني والحامل للجنسية اللبنانية. وتوقع الكثيرون انه سيغير تصاريحه الأولية في أول فرصة وقد فعل لاحقاً. إذا أضفنا الى تصريحاته الصراحة القاسية والمباشرة للموفدة التي سبقته مورغان أرتاغُس فمن حق اللبنانيين أن يسألوا: "ما هي الغاية النهائية المرجوة من الولايات المتحدة للبنان؟
المسار الثاني: يوضح أننا نواجه خطة وان هناك هيئات أركان منكبة على دراسة الفوالق بين شعوب المشرق من أجل إعادة حقها للجغرافيا السياسية. ومن الطبيعي ان تكون حدود جديدة متناغمة مع التغييرات الديموغرافية مُدرجةٌ في خدمة نظرية الأمن العالمي بشكل عام والإسرائيلي بشكل خاص. فالشعوب في هذه المنطقة، بحدودها الحالية، برهنت عدم قدرتها على بناء مؤسسات سياسية ثابتة تؤمن استمرارية الحكم بشكل سلس، فكل تغيير منجب لحروب أهلية واقتتال. فاذا جمعها بطرق أخرى أصبح مشروعاً، ربما يجلب الأمن والاستقرار لها والمنطقة والعالم. فتضم إسرائيل جبل الشيخ كامتداد للجولان وجنوب لبنان -جليلها الأعلى- مصادره المائية وصولاً إلى الليطاني، فيما تنضم إلى سوريا ولاية طرابلس العثمانية - فتوسّع واجهتها البحرية، ويعود المُكوّنان المسيحي والدرزي، اللذان كانا في البداية النواة الصلبة للبنان الكبير، إلى لبنان الصغير مع بعض الامتدادات التي قد تسمح بها الجغرافيا الجديدة؟! هذا، إذا لم يشعر المكوّن الدرزي بجاذبية "أرض الدروز"، فيتحالف مع إسرائيل ومع دروز السويداء… المأساة الكبرى في هذا السيناريو المرعب هو خسارة المكون الشيعي لجغرافيته التاريخية الجنوبية والشمالية في الهرمل.
يكمن المسار الثالث في افتعال حربٍ بين المكوّنات اللبنانية الرئيسية لإنشاء ثلاث طبقات من المناطق، آمنة لإسرائيل: الأولى هي تلك القائمة بالفعل اليوم، وهي المنطقة المواجهة للحدود الشمالية الإسرائيلية والتي لا تزال إسرائيل تمنع سكانها من العودة إليها. والثانية من شمال تلك المنطقة الحدودية إلى خط نهر الليطاني، وهي ستبقى عرضة لهجمات وضغط مستمر. أما المنطقة الأمنية الثالثة فهي ما تبقّى، أو كامل لبنان الممتدّ من الليطاني إلى الحدود الشمالية مع حرية تامة لإسرائيل بالتصرف استباقياً كلما حكمت ضرورتها. أحداث السويداء سلطت الضوء على هشاشة التحالفات بين المكونات الداخلية للبنان الكبير. فباستثناء المسيحيين المنشدين للحياد، انضمت المكونات الثلاث الأخرى بطريقة عفوية الى الصراع وبدأت تدفع ثمن ذلك بالأرواح حتى تدخلت زعامات عقلانية لتبرد النفوس وترفض المواجهات الطائفية.
إزاء كل الأخطار التي تتهدّد الكيان فإن دولة "لبنان الكبير" لا تتصرف كدولة كبيرة على الإطلاق. هدرت وقتا ثمينا وما زالت. فعليها حزم أمرها ومواجهة، أولا مكوناتها الداخلية التي تمنعها من أن تكون دولة فعلية وتصادر قرارها وتجرّها حيث لا تريد بالرغم عنها. إن أرادت الحفاظ على لبنان كما رسم على خرائط العالم عام 1920 فعلى المكون الضال والمصادَر قراره، أن ينضم إلى الآخرين لكي تستطيع الدولة استعادة متانتها ومخاطبة العالم بلغة واحدة. حينها فقط قد يعود لبنان أحد الرسامين حول الطاولة للمطالبة بعدم المس بحدوده بدلاً من أن يكون المساحة الأضعف التي تُملى عليها الأفعال المتعددة المفروضة خارجياً لتكون أقسامها المفتتة جوائز ترضية للمتناحرين.
لذلك، على الجميع أن يدرك أن الرئيس عون ليس الشخصَ الوحيد المسؤول أو الوحيد الذي يُحاسب: فاتفاق الطائف، أناط السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء فيما السلطة التشريعية في مجلس النواب والقضائية لدى مجلس القضاء الأعلى... على هذه السلطات أن تفعّل دورها ونشاطها ضمن الأطر الدستورية بدون ارتجال أو تفرّد في اتّخاذ القرارات، لضمان تقاسم أوسع للمسؤوليات والأعباء. وعلى الجميع أن يدرك أن رئيس الجمهورية الذي وضعه الدستور على رأس كل السلطات لا يستطيع اجتراح المعجزات.
الوقت ينفد، وخريطة لبنان مطروحة، ولبنان غائب عن قائمة المدعوين إلى "العلاج". السبيل الوحيد لفرض نفسه هو من خلال اندفاعة عاجلة للسلطة، مطلوبة ومتوقعة ومرغوبة بشدة! هل ستأتي في الوقت المناسب أم بعد فوات الأوان؟
التاريخ يتحرّك، والجغرافيا معه!