داود ابراهيم

دوِّر لندن من عشية.. ماري بتهجّي وبتعيد، وير از ماري يا رضا؟ رضا الذي كتب له زياد الرحباني بصوت جوزيف صقر، لن يجد ماري بعد اليوم. وسيتوقف المستمع العربي عن سماع ذاك الصوت الآتي من خلف البحار "هنا لندن" ودقات ساعة بيغ بن.

اليوم ستتوقف بي بي سي نيوز بالعربي بعد 85 عاماً عن البث، لن يعود بإمكان الباحثين عن المحطة عبر الراديو التقاطها وهي التي كانت الأكثر حضورا من حيث قوة الإرسال وجودته.المنصة التي ستتحول إلى العالم الرقمي أوقفت العديد من الصحافيين العاملين في أقسامها المختلفة وبدأت بالتركيز على الموقع الألكتروني والإعلام الرقمي كبديل حقيقي.

https://twitter.com/BBCArabic/status/1618575450564923395?s=20&t=XBf3Nyg8R_A_48bEhHjZig

تختتم الإذاعة بثها بحلقة خاصة تحفل بشهادات قدامى المستمعين والمستمعات من العالم العربي. بالنسبة لجيل عاش سنوات الإذاعة الذهبية ستبقى الـ بي بي سي علامة فارقة من الصعب نسيانها.

https://twitter.com/BBCArabic/status/1618611712248217600?s=20&t=XBf3Nyg8R_A_48bEhHjZig

في 3 كانون الثاني 1938 قرأ المذيع  أحمد كمال سرور أول نشرة إخبارية وجاء فيها: "هنا لندن.. سيداتي سادتي نذيع عليكم من لندن لأول مرة في التاريخ باللغة العربية، إذ نخاطب مستمعينا في الشرق الأدنى بلسانهم العربي. الخبر الأول: فلسطين.. نفذ حكم الإعدام شنقًا في عربي من فلسطين صباح اليوم بأمر من المحكمة العسكرية، كما أسر فلسطيني آخر أطلق الرصاص على قطار كان يسير بالقرب من تلال القدس ولم يصب أحد بأذى... تلك كانت النشرة الأولى الموجهة إلى العالم العربي وأثارت غضب المستمعين العرب.

تغيّر العالم كثيراً ولا تزال القضية الفلسطينية حاضرة ولو بأشكال مختلفة. تختلف نظرة الأجيال المتعاقبة إلى هذه الوسيلة الإعلامية، بين جيل لم تكن امامه خيارات واسعة لمتابعة الأخبار والأحداث وأجيال تحولت معها الـ بي بي سي إلى منصة تتنافس مع غيرها من المنصات على جمهور متقلب ومتطلب. المنصة التي استطاعت الاستمرار مع ظهور التلفزيون واستمرت مع الأنترنت وصولاً إلى زمن مواقع التواصل  الاجتماعي، بلغت  محطتها الأخيرة: التحول الرقمي.

بدأت الخدمة العربية عبر هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي ببث يزيد قليلا على 60 دقيقة عبارة عن نشرة إخبارية ورسائل إذاعية، فمواد متنوعة. وزادت تلك الفترة إلى ثلاث ساعات، كانت تذاع خلالها أربع نشرات إخبارية، وكان البث يُستهل بآيات من القران الكريم. وانضم إلى أحمد سرور حسن الكرمي وعيسى وكرت سبحة الأسماء. ونوّعت الإذاعة محتواها فقدمت المواد الثقافية والفنية.

يحفل إرشيف الإذاعة بلقاءات نادرة وهي التي عمل لصالحها كتاب كبار نذكر منهم الطيب صالح الذي ترأس قسم الدراما في الإذاعة.  ومن الحوارات التي تزين مكتبة الإذاعة لقاءات مع الموسيقار محمد عبد الوهاب وام كلثوم وفيروز وآخرين.

https://twitter.com/BBCArabic/status/1618560720647630851?s=20&t=XBf3Nyg8R_A_48bEhHjZig

مع توقف الإذاعة عن البث يعود السؤال حول مستقبل الإعلام التقليدي بقوة. ماذا بقي من المدارس الإعلامية والإخبارية العريقة؟ هل ما زال بالإمكان الحديث عن العمل الإعلامي والتخصص الإعلامي في عالم المواطن الصحفي وصنّاع المحتوى والمؤثرين؟ هل تغيرت قواعد العمل الصحفي بالفعل أم أن المسالة هي بتغير وسائل النقل وعادات استهلاك المحتوى الصحفي؟ هل يمكن أو لا بد من البناء على التجارب الصحفية العريقة للتعامل مع التقنيات الحديثة والوسائط المختلفة؟

تتوقف الإذاعة عن البث وتوقفت صحف كثيرة وعريقة عن الطباعة وحلّت شركات البثّ التلفزيوني كنيتفليكس وغيرها مكان محطات التلفزة المحلية وحتى مكان شاشات السينما. قلة تقصد الشاشة الكبيرة لمتابعة الأخبار في الوقت الذي يتزايد معه انتاج المضامين لشاشات الهاتف المحمول.

[caption id="attachment_3194" align="aligncenter" width="1024"] وأصبحت الأخبار موجهة لشاشة الهاتف الذكي[/caption]

من المؤكد أن عالم الإعلام بالأمس لم يعد صالحاً ليومنا هذا، كما أن إعلامنا اليوم ليس بأفضل أحواله ولن يكون حاضراً أو فاعلاً في المستقبل القريب. التطور التقني المتسارع مصحوباً بتغير عادات الجمهور وطريقة استهلاكه للأخبار، يتطلب مقاربة مختلفة من القائمين والعاملين في الشأن الإعلامي، ولا نعني هنا الوجوه التي تطل عبر الشاشات وتستقطب اهتمام المتابعين والمتابعات، بل عنينا من يقف خلف صناعة المادة الإخبارية وقدرة هؤلاء على الخروج بمعادلات جديدة لإنتاج محتوى بمستوى جيد قابل للإنتاج والتسويق والاستهلاك بمواجهة موجات الإسفاف والابتذال التي أغرقت العالم وتغوص به إلى القعر.