بعد اتفاق غزة، تدل كل المؤشرات إلى أن لبنان دخل أو أدخِل في مدار التسويات الإقليمية وبدأ الاستعداد لتفاوض محتمل مع إسرائيل عزّزه أخيرا قول رئيس الجمهورية بعد ساعات على "إشادة" الرئيس الاميركي دونالد ترامب بنهجه إنه "لا يمكن أن نكون نحن خارج المسار القائم في المنطقة، وهو مسار تسوية الأزمات، ولا بد أن نكون ضمنه، إذ لم يعد في الإمكان تحمل مزيد من الحرب والدمار والقتل والتهجير".
ولكن جولة رئيس الحكومة نواف سلام على رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب نبيه بري كشفت وجود "تنافس ناعم" بين رئيسَي الجمهورية والحكومة على إدارة المرحلة خصوصاً بعد تعبير ترامب في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلية عن دعم "الرئيس اللبناني الجديد في خطة نزع سلاح "حزب الله" وبناء دولة تعيش في سلام مع جيرانها وهو يقوم بعمل جيد جدا".
هذا "التنافس الناعم" بين عون وسلام على إدارة المرحلة في حال استمراره قد يفتح سجالاً حول الإصلاحات الدستورية لكل منهما في هذا المجال على ضوء ما تنص عليه المادة 52 من الدستور التي تمنح رئيس الجمهورية صلاحية المفاوضة لعقد المعاهدات الدولية وإبرامها "بالاتفاق مع رئيس الحكومة . ولا تصبح مبرمة إلاّ بعد موافقة مجلس الوزراء."
ويبدو أن عبارة "بالاتفاق مع رئيس الحكومة" هي التي دفعت سلام إلى التحرك في هذا الاتجاه على قاعدة أنه شريك رئيس الجمهورية في المفاوضة لعقد المعاهدات الدولية، وبالتالي لا يمكن الرئيس التفاوض أو إبرام أي معاهدة من دون التفاهم معه. ولكن المادة الدستورية تؤكد أن الرئيسين لا يمكنهما إبرام المعاهدات "إلا بعد موافقة مجلس الوزراء"، ما يعني أن أياً منهما لا يملك سلطة مطلقة في هذا المضمار من دون العودة الى مجلس الوزراء مجتمعاً والذي له الصلاحية الحاسمة في البت بهذه المعاهدات.
موقف موحد
لكن الظروف الضاغطة في هذه المرحلة وإمكان حصول مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة بين لبنان وإسرائيل لن تتيح لأي فريق ترف سجال من هذا النوع، بدليل أن مشاورات رئاسية انطلقت بقوة لصوغ موقف موحد تحضيراً لكل الاحتمالات وعلى رأسها المفاوضات غير المباشرة المشابهة لتلك التي جرت بين لبنان واسرائيل برعاية الوسيط الأميركي آموس هوكستين وآخرين قبله وأثمرت عام 2022 اتفاقاً على ترسيم الحدود البحرية.
ومن المفترض أن يستند الموقف اللبناني في أي مفاوضات مع إسرائيل إلى حدود واضحة، وتبرز العودة إلى "اتفاقية الهدنة لعام 1949" خياراً استراتيجياً رئيسياً يحظى بتأييد لبناني ودعم دولي. بحيث يكون التفاوض غير مباشر ويقتصر فقط على ترسيم الحدود البرية وهي أصلا مرسَّمة منذ العام 1923 وتحتاج الى تثبيت بمعالجة 13 نقطة (من نقطة B1 في رأس الناقورة غرباً إلى تلال كفرشوبا و مزارع شبعا وجبل الشيخ شرقاً) تعتدي بها اسرائيل على الاراضي اللبنانية على مر الحروب والنزاعات اللبنانية ـ الاسرائيلية والعربية ـ الاسرائيلية التي حصلت منذ قيام الكيان الاسرائيلي عام 1948، ولا يتم الدخول في أي مفاوضات سياسية شاملة لإقامة معاهدة سلام أو تطبيع.
ويتمسك لبنان بخط الحدود الدولية وفق اتفاقية "بوليه - نيوكومب" لعام 1923 ويرفض اعتماد "الخط الأزرق" حدوداً دائمة، فهذا الخط هو الخط الفاصل الذي رسمته الأمم المتحدة بين لبنان من جهة وإسرائيل وهضبة الجولان من جهة أخرى في 7 حزيران عام 2000 ولا يعتبر حدوداً دولية لكن أنشئ لهدف وحيد هو التحقق من الانسحاب الإسرائيلي من لبنان. أما اتفاقية الهدنة لعام 1949 فهي الإطار القانوني الملزم لإنهاء النزاع وضبط الحدود، وقد وقعها لبنان واسرائيل في 23 آذار عام 1949 في رأس الناقورة برعاية الأمم المتحدة، وهي تُشكل الوثيقة الثنائية الوحيدة والأساسية التي تنظم العلاقة بين الجانبين .وتكمن أهميتها في أنها معاهدة دولية ملزمة، وتؤكد صراحة تبعية خط الهدنة للحدود الدولية المعترف بها بين لبنان وفلسطين المحتلة، كما رسمتها اتفاقية "بوليه - نيوكومب" عام 1923. وهذا ما يكرسها مرجعية قانونية ثابتة تمكن لبنان من تأكيد سيادته على حدوده.
ولذلك يصر الموقف اللبناني على إحياء هذه الاتفاقية والتمسك بها كإطار قانوني سليم لأنها تشكل مرجعية دولية واضحة لوضع حد للعداء وترسيخ الأمن على الحدود، من دون الدخول في مفاوضات مباشرة أو عمليات تطبيع.
وتبدو إمكانية اعتماد اتفاقية الهدنة كحل ممكنة لسببين:
ـ الأول، أن الأمم المتحدة لا تزال تعترف بالاتفاقية كإطار قانوني قائم وصالح، وقد وردت في قرارات لاحقة لمجلس الأمن الدولي ومنها القرار 1701، وهذا ما يمنح لبنان الغطاء الدولي اللازم عند المطالبة بتطبيقها.
ـ الثاني، أن هذه الاتفاقية تمكن لبنان من إدارة النزاع وضبط الحدود وحفظ ثوابته الوطنية من خلال آلية دولية هي "لجنة مراقبي الهدنة" التي ما تزال موجودة من دون حاجة إلى اعتراف سياسي باسرائيل او اقامة علاقات ديبلوماسية معها.
عقبات كبيرة
لكن تطبيق هذه الاتفاقية يواجه عقبات كبيرة لعل أبرزها الموقف الإسرائيلي بعدما جمّدت تل ابيب العمل بها من طرف واحد بعد حرب 1967، وليس واضحاً بعد ما إذا كانت ستقبل بإحيائها الآن. ولكنّ إصرارها على موقفها سيشكل التحدي الأكبر في هذا المضمار، يضاف اليه التعقيدات الماثلة في الواقع الراهن. فقد حصلت تطورات كثير منذ 1949، بما فيها الاجتياحان الاسرائيليان للبنان في 1978 و1982 وحرب العام 2006 وقرار مجلس الأمن 1701 الذي لم يطبَّق والحرب الراهنة التي لم تنته بعد.
لكن، واستنادا الى كل ما تقدم يمكن القول ان لبنان يملك إطاراً قانونياً وسياسياً محدداً للمفاوضات. فهو يرفض التفاوض المباشر والتطبيع مع إسرائيل، ويتمسك بالحدود الدولية المرسومة منذ العام 1923، ويعتمد خيار المفاوضات غير المباشرة في شأن الحدود عبر إعادة العمل باتفاقية 1949 لأنها تمثل خياراً استراتيجياً يتوافق مع هذا الإطار، وتوفر للبنان مرجعية دولية متينة لا تضطره إلى تقديم تنازلات سياسية، لكن نجاح هذا الأمر يتطلب توافر إرادة دولية تضغط على اسرائيل لكي تلتزم بهذه المرجعية الدولية.
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
[email protected]