لم يكن فوز المعارِضة الفنزويلية ماريا كورينا ماتشادو بجائزة نوبل للسلام مجرّد احتفاء بامرأة ناضلت في سبيل الديمقراطية وحقوق الإنسان، بل جاء القرار محمّلاً بدلالات سياسية عميقة تتجاوز حدود فنزويلا. فاختيار لجنة نوبل النرويجية ل "ماتشادو" لم يكن تكريماً تقليدياً بقدر ما كان رسالة سياسية مزدوجة إلى واشنطن والعالم:
- الأولى، أنّ اللجنة لا تخضع لتأثيرات القوى الكبرى والعظمى رغم محاولاتها المتكرّرة.
- الثانية، أنّ أوروبا عبر مؤسّساتها الرمزية لا تزال تعتبر نفسها الضامن الأخلاقي للنظام الدولي.
إذاً، لم تكن جائزة نوبل للسلام مجرّد جائزة أكاديمية أو إنسانية، بل أداة رمزية تعبّر عن ضمير الغرب الليبرالي. ولهذا، فإنّ كل اختيار له دلالته السياسية بقدر ما له قيمته المعنوية.
اختيار ماريا كورينا ماتشادو في هذا التوقيت بالذات، جاء ردّاً على محاولة الرئيس الأميركي ترامب العائد بقوة لفرض اسمه على لائحة الفائزين بعدما رشّحه حلفاؤه من مواقع متناقضة سياسياً، من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إلى زعماء من بيلاروسيا وروسيا وتيمور الشرقية، جميعهم يمثلون أوجهاً مختلفة من الاستقطاب الجيوسياسي.
هكذا بدا المشهد كأنّ لجنة نوبل قالت لترامب بوضوح… "لسنا جزءاً من نظامك الجديد للعلاقات الدولية".
لذلك، فإنّ اختيار امرأة فنزويلية معارضة لنظام سلطوي في أميركا اللاتينية، وليس شخصية غربية أو أميركية، يحمل معنى سياسياً مضاعفاً، فالقرار يذكّر واشنطن بأنّ القيم التي تأسس عليها النظام الليبرالي لا يمكن أن تُدار بعقلية الصفقات.
فمنذ نهاية الحرب الباردة، احتكرت الولايات المتحدة خطاب الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. غير أنّ عودة ترامب إلى المسرح السياسي أعادت فتح الجرح الأوروبي العميق، الذي تمكّن أن يبقى موحّداً في قِيَمه، بينما واشنطن تميل نحو الانعزال والشعبوية؟
قرار لجنة نوبل هذا العام بدا وكأنه محاولة نرويجية لاستعادة زمام المبادرة الأخلاقية، وتذكير واشنطن بأنّ أوروبا لا تزال تحتفظ بحقها في تحديد من يجسّد “السلام” وفق منظومتها. فماتشادو تمثّل في نظر الأوروبيين النموذج المثالي للمرأة التي تواجه الطغيان بوسائل سلمية، بينما يجسّد ترامب نموذج الزعيم الذي يختزل السياسة في معادلة القوة والربح.
وبينما كان نتنياهو يقدّم ترشيح ترامب رسمياً لنوبل، بدا الأمر كأنّه تحالف بين السياسيين الشعبويين في الشرق الأوسط والغرب لمحاولة الاستحواذ على رموز النظام الليبرالي الغربي نفسه. لذلك جاء رد لجنة نوبل حاسماً… "الرمزية الأخلاقية للجائزة ليست للبيع، ولا يمكن توظيفها في لعبة الزعماء".
من وجهة نظر استراتيجية، لم يكن ترامب يسعى إلى جائزة نوبل من باب الوجاهة فحسب. فالجائزة، في ثقافته السياسية تمثّل أعلى درجات الاعتراف الدولي بشرعية “السلام على الطريقة الأميركية”، أي السلام الذي يُصنع بالضغوط الاقتصادية والصفقات السياسية، لا بالاتفاقات المتكافئة.
لكن لجنة نوبل، باختيارها ماتشادو، قلبت المعادلة رأساً على عقِب، فبدلاً من أن تكرّس نموذج “السلام عبر القوة”، عادت لتحتفي بنموذج “السلام عبر المقاومة السلمية”.
هكذا تحوّل فوز امرأة من فنزويلا إلى هزيمة رمزية لزعيم أقوى دولة في العالم.
اختارت لجنة نوبل التأكيد على أنّ النظام العالمي القائم على القيم لا يزال يقاوم أمام نظام القوة الذي يسعى ترامب إلى ترسيخه.
إنّ الجائزة التي حملت اسم مهندس و مخترع الديناميت عام ١٨٦٧، تحوّلت عام ٢٠٢٥ إلى ديناميت سياسي حقيقي فجر في وجه واشنطن رسالة مدوّية.
وبينما يحتفل الأوروبيون بماريا كورينا ماتشادو كرمز للمقاومة المدنية، يجد ترامب نفسه أمام طريق العودة إلى البيت الأبيض.
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
[email protected]