في قلب "وول ستريت" حيث تتقاطع خيوط المال والنفوذ، برز اسم "برنارد مادوف" لعقود من الزمن كواحد من ألمع الشخصيات في عالم الاستثمار. كان الرجل رمزاً للنجاح، يقود شركة استثمارية عملاقة، ويُنظَر إليه كعبقري يعرف كيف يحوّل أموال المستثمرين إلى أرباح ثابتة ومضمونة. لكن خلف تلك الصورة البرّاقة، كان يختبئ محترف من أعظم المحترفين في عمليات الاحتيال المالي في التاريخ، والتي عُرفَت لاحقاً باسم فضيحة "مادوف".

وُلد "برنارد لورانس مادوف" عام 1938 في نيويورك، وبدأ مسيرته المهنية مطلع ستينيّات القرن الماضي بمبلغ صغير لا يتجاوز بضعة آلاف من الدولارات جمعها من عمله كمنقذ سباحة. أسس شركته الاستثمارية الخاصة، وتمكّن بخطوات سريعة من بناء شبكة علاقات واسعة في "وول ستريت"، مستفيداً من شخصيته الكاريزميّة وسمعته كخبير مالي صاعد ومحترف، وسرعان ما كسب ثقة نخبة المجتمع الأميركي من رجال أعمال ومشاهير ورؤساء مؤسسات خيريّة. لقد كان وعده مغرياً لهؤلاء بعوائد ماليّة مستقرّة مهما كانت تقلبّات الأسواق الماليّة. ومع مرور السنوات، أصبح اسمه مرادفاً للثقة والنجاح.

لكن ما لم يكن يعرفه أحد، أن كل تلك الأرباح لم تكن سوى وهم، فقد ابتكر "مادوف" نسخة متقنة من مخطط "بونزي" الشهير، حيث عمد الى استخدام أموال المستثمرين الجدد لدفع أرباح المستثمرين القدامى دون وجود استثمارات حقيقيّة.

لم يكن هناك أسواق ولا صفقات معقّدة كما كان يوهم زبائنه، بل كان هناك مجرّد لعبة أرقام تُدار بخداع ممنهج، وبفضل ذكائه ونفوذه تمكّن من إخفاء الحقيقة لعقود، حتى إن الجهات الرقابيّة الأميركيّة مرّت مراراً على شركته دون أن تكشف المستور رغم تحذيرات بعض الخبراء.

مع الأزمة الماليّة العالميّة عام 2008، بدأت خيوط اللعبة تتفكّك، إذ طلب العديد من المستثمرين سحب أموالهم، لكن "مادوف" لم يكن يملك السيولة الكافية لتغطية الطلبات... عندها انهار كل شيء.

في كانون الأول من العام نفسه، اعترف "مادوف" لأبنائه بأن شركته ليست سوى "كذبة كبيرة"، فبادروا إلى الاستسلام للسلطات الرقابيّة الماليّة، حيث ان هذا الخبر هزّ أميركا والعالم... وتبيّن ان أكثر من 50 مليار دولار كان مجموع هذا الاحتيال، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ الجرائم الاقتصادية في أميركا.

عام 2009، وقف "برنارد مادوف" أمام القضاء ليواجه تهم الاحتيال وتبييض الأموال والكذب على الجهات الرقابية، وقد اعترف بكافة التهم التي وجّهت إليه ولم يحاول إنكارها، ليصدر بحقه حكم بالسجن 150 عاماً.

صورة الرجل الذي كان يوماً أسطورة في عالم المال تحوّلت فجأة إلى رمز للفضيحة وصدمة للمجتمع الأميركي والسلطات الأميركية. فقد انهارت المؤسسات الخيريّة وعائلات فقدت مدخراتها وصناديق تقاعد تبخّرت أموالها.

قضى مادوف سنواته الأخيرة خلف القضبان يعاني من أمراض عدّة، حتى توفي عام 2021 عن عمر ناهز 82 عاماً.

تبقى قصّة "برنارد مادوف" تجسيداً مأساوياً لانهيار أسطورة شغلت الاقتصاد الأميركي، فالرجل الذي بُنيَت حوله صورة "الخبير الذي لا يخطئ"، لم يكن سوى مهندس محترف لسرقة القرن حينها.