أربع وثلاثون قمَّة عربية عُقدت حتى الآن، منذ قمة أنشاص في مصر، العام 1946، وقد حضرها ممثلو الدول السبع المؤسسة للجامعة العربية، وهي مصر والأردن والسعودية واليمن والعراق ولبنان وسوريا.
لم يصدر عن تلك القمة بيان ختامي، بل مقررات، أبرزها: عَدُّ قضية فلسطين قلب القضايا القومية، على أنها قطْر لا ينفصل عن باقي الأقطار العربية؛ وضرورة الوقوف أمام الصهيونية، على أنها خطر لا يدهم فلسطين وحسب وإنما جميع الدول العربية والإسلامية أيضاً؛ والدعوة إلى وقف الهجرة اليهودية وقفاً تامّاً، ومنع تسرب الأراضي العربية إلى أيدي الصهاينة، والعمل على تحقيق استقلال فلسطين؛ وعَدُّ أي سياسة عدوانية موجهة ضد فلسطين تأخذ بها حكومتا أميركا وبريطانيا هي سياسة عدوانية تجاه دول الجامعة العربية كافة؛ والدفاع عن كيان فلسطين في حال الاعتداء عليه؛ ومساعدة عرب فلسطين بالمال، وبكل الوسائل الممكنة.
كل القمم العربية الثلاث والثلاثين التي تتالت مذ ذاك، كانت قضية فلسطين محورها، ودونها كل القضايا الأخرى... ولم تخرج أدبيات بياناتها الختامية عن فحوى مقررات المؤتمر الأول.
بيانات ختامية تصدر مدبجة بأسلوب إنشائي، من دون أي خطوة عملية، سوى ما تفتقت عنه عبقريات النقد، بقول أحدهم في القادة العرب: اتفَّقوا على ألَّا يتفقوا.
لكن النَّقد الأقسى لهذه الحال العربية صدر عن "شاعر القبيلة"، كما درج العرب على نعت شعرائهم الفطاحل، عنيتُ به الشاعر والسَّفير السوري عمر أبو ريشة، بعد القمة العربية الخامسة، العام 1969، في الرباط، في حضور أربع عشرة دولة عربية. كان هدف القمة وضع استراتيجية لمواجهة إسرائيل بعد حرق المسجد الأقصى في 21 آب 1969. فنصت الإستراتيجية على افتراق القادة العرب قبل أن يصدروا أي قرار أو بيان ختامي.
انتظر أبو ريشة الاحتفال الذي أقيم في اليونسكو، في بيروت، لتأبين الأخطل الصغير (بشارة الخوري)، فأطلق قصيدته الشهيرة "بنات الشاعر"، وقد ضمَّنها أدقّ الأوصاف وأصدقَها، على مرارتها وقسوتها، ملخِّصاً حال العرب. قال:
إِنْ خُوطِبُوا كَذَبُوا، أَوْ طُولِبُوا غَضِبُوا،
أَوْ حُورِبُوا هَرَبُوا، أَوْ صُوحِبُوا غَدَرُوا،
خَافُوا عَلَى الْعَارِ أَنْ يُمْحَى فَكَانَ لَهُمْ
عَلَى الرَّبَاطِ لِدَعْمِ الْعَارِ مُؤْتَمَرُ
عَلَى أَرَائِكِهِمْ، سُبْحَانَ خَالِقِهِمْ،
عَاشُوا وَمَا شَعَرُوا، مَاتُوا وَمَا قُبِرُوا.
وإذا كانت هذه هي الصورة التي انطبعت في الأذهان عما أتى به العرب في قممهم، فكيف إذا انضمت إليهم المنظومة الإسلامية التي عقدت وإيّاهم مؤتمرات ولقاءات، لم تختلف في نتائجها عن نتائج القمم العربية.
صحيح أن قمّة الدوحة الأخيرة خرجت قليلاً عن المألوف، لأن العدوان الإسرائيلي على العاصمة القطرية، عُد مسّاً بالسِّيادة وضرباً لروحيَّة التَّوسُّط التي دأبت الإمارة على انتهاجها، لحل النزاعات، بدلاً من اللجوء إلى السلاح، وإن كان المستهدف بالعدوان قيادة حماس لا القيادة القطرية. لكنّ الصحيح أيضاً أن القمة خُتمت، ولم يلمس أحدٌ أي إجراء عملي لمواجهة الغطرسة الإسرائيلية المستمرة، سواء في غزة، أو في لبنان، أو في اليمن، بمباركة أو غض طرف، من الولايات المتحدة الأميركية التي تقيم في قطر قاعدة عسكرية ضخمة، لم تُسمن قطر ولم تغنِها من جوع.
ولعلّ اللافت في تلك القمة تحذير أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني من أن إسرائيل تعمل على زعزعة استقرار لبنان وزجِّه في حرب أهليَّة، واتهامه بنيامين نتنياهو بأنه "يحلم" في أن تصبح المنطقة العربية منطقة نفوذ إسرائيلية.
تحذير قطري يتوِّج ما دأبت إسرائيل منذ قيامها، ربما، على فعله في حق لبنان، ولا سيّما في السنتين الأخيرتين، في حربي طوفان الأقصى والإسناد.
فأيُّ تفسير للغارات الجوية العنيفة التي استهدفت جنوب لبنان الخميس الماضي، مسبوقة ببيانات تحذير ودعوات إلى الأهالي لإخلاء بيوتهم وقراهم، ومرفقة بخرائط تحدّد الأماكن التي ستستهدف، إلَّا ضربٌ بعرض الحائط لكل الإجراءات التي اتخذها لبنان، في إطار حصرية السلاح، مرحباً بالخطة التي وضعها الجيش اللبناني، والتي كانت موضع ترحيب عالمي وعربي؟
ولمَ وقَّتت إسرائيل تصعيدها، عشية تقديم الجيش اللبناني تقريره الأول إلى السلطة السياسية عن الخطوات التي نفّذها، في إطار حصرية السلاح، وإن كانت إجراءات تسلّم السلاح الفلسطيني من المخيمات تشوبها فولكلورية وعدم جدية، لأن السلاح ما زال منتشراً، ولأن "حركة فتح" التي سلمت "كم بيك أب" محملةً سلاحاً، ليست جميع الفلسطينيين.
وهل أرادت إسرائيل إيصال رسالة، في الذكرى الأولى لاغتيال الأمينين العامين السابقين لـ "حزب الله" السيد حسن نصر الله والسيد هاشم صفي الدين، إلى بيئة الـ "حزب" الذي سيحيي هذه المناسبة بفعاليات وأنشطة متنوعة، أنها ستنغّص على جمهوره ومريديه ومؤيديه حتى حزنهم؟
وهل كانت إسرائيل تستبق زيارة مورغان أرتاغُس، الأحد للبنان، لحضور اجتماع لجنة وقف النار، "ميكانيزم"، في الناقورة، علماً أنها لجنة يترأسها جنرال أميركي، وبدت منذ تأليفها، قبل أشهر، كالأطرش في الزفة، أو "شاهد ما شافش حاجة"، لتقول إنها هي الآمر والناهي في المنطقة العربية، بما يعزز اتهّام أمير قطر لها بأنها تريد جعلها كلها منطقة نفوذ إسرائيلية؟
كلّ ما سبق يدخل في إطار زعزعة الاستقرار في لبنان، والدفع إلى قيام حرب أهلية فيه، في وقت يتخوف كثر من أن ما ترسمه الإرادات الدولية للمنطقة سائر إلى التنفيذ مهما علت الأصوات المعترضة، أو قاوم البعض بالسلاح أو بالموقف، المهم أن يبقى "الطِّفل المدلَّل"، أي إسرائيل في منأى عن الأخطار، وأن تبقى منابع النفط في متناول اليد الأميركية.
ولكن من قال إن القرارات العليا هذه قابلة للتطبيق، إذا التقى الشعب على رفضها؟ فهلّا وعى اللبنانيون هذه الحقيقة، فيجتمعوا على كلمة سواء، ويتكتلوا ليقفوا في وجه أي مخطّط مشبوه، مهما علا شأن واضعه، بدلاً من الرهانات القائمة لدى البعض منهم على الخارج، ولغة الاستقواء والاستعلاء والشماتة والتنمر، بما يذكِّر بسالفة حفظناها منذ الصغر؟
هاجم ثعبان مجموعة فتية يلعبون في مكان، فهرب كثر منهم، باستثناء فتيين تغلبا على الثعبان وقتلاه، ثم انصرفا.
فما كان ممن هربوا إلَّا أن عادوا إلى حيث قُتل الثعبان، وربطوه من ذنبه وراحوا يجرجرونه في أحياء القرية، ليوحوا، متباهين، أنهم هم الأبطال.
وما أكثر "الأبطال" من هذا النوع بيننا اليوم!!!
يرجى مشاركة تعليقاتكم عبر البريد الإلكتروني:
[email protected]