أسوأ ما يلحق بشعب ما أن يعيد تاريخُه نفسَه، لأنَّ الشُّعوب التي تفتقر إلى الذاكرة الجماعية تكرر أخطاءها.
وها نحن نفعلها، إما لأنّ النسيان أضحى ذاكرتَنا، وإما لأنّ ذاكرتنا مثقوبة.
فبعد أيام حبست الأنفاس وكثرت فيها التحليلات والتسريبات، وعلت خلالها السقوف، وكادت تتعطل دورة الحياة، اجتمع مجلس الوزراء للاطلّاع على خطة قيادة الجيش لحصرية السلاح في يد الدولة اللبنانية، فلم يصدر عنها ما لم يكن متوقعاً، في مشهد مُستعاد من دون أي تعديل، على أن تتكرر مشاهد أخرى سبق لنا أن شاهدناها قبلاً.
صدرت مقررات مجلس الوزراء بلغة "مخلوطة"، واضحة وغامضة معاً، توحي الوضوح والتأويل، وينطبق عليها قول ابن الرومي "أَقامَ يُجهِدُ أيَّاماً قريحَتَهُ/ وفَسَّر الماءَ بعدَ الجَهْدِ بالماءِ". فأحس كل فريق ممثَّل في الحكومة، ولو ظاهريّاً، أن ما كان يطالب به، ناله مسروراً مغتبطاً سعيداً، لولا أن تلك الإيجابيات الظاهرية تخفي توقعات ومخاوف ومجهولاً مقبلاً، ليس على أفرقاء السلطة فحسب، بل على جميع لبنان وشعبه.
تخوُّف أوّل: انسحب وزراء "حزب الله" وحركة "أمل" الأربعة من الجلسة بعدما دخل قائد الجيش العماد رودولف هيكل ليشرح للوزراء خطته، فجهروا بموقفهم الرافض لمقررات جلستي 5 و7 آب، على أنها غير ميثاقية، وانسحبوا، وجاراهم في الانسحاب الوزير الخامس غير المحسوب على الفريقين، لعدم قدرته على تحمل تغطية ميثاقية الحكومة، واضعاً استقالته في تصرف رئيس الجمهورية.
فماذا لو قرر الوزراء الشيعة الاستقالة نهائيّاً؟
هل يتكرر سيناريو حكومة فؤاد السنيورة عام 2005؟ الحكومة التي وحدت ساحتي 8 آذار و14 آذار، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وخاض أفرقاؤها الانتخابات النيابية متحالفين، وأبعدت "تسونامي" التيار الوطني الحر بالكتلة النيابية المحترمة التي خرج بها. فاستمرت تحكم، فاقدة الميثاقية، على الرغم من انسحاب الوزراء الشيعة منها، فضلاً عن الوزير يعقوب الصراف، اعتراضاً على بند إنشاء المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة الحريري، من خارج جدول الأعمال.
وإذا استقال الوزراء الشيعة من الحكومة، وأصر أركان الحكم، ولا سيّما منهم نوّاف سلام الموعود بالبقاء رئيساً للحكومة، مدعوماً من خارج وداخل، على الاستمرار في سياسة نزع السلاح، بالمنطق الذي يروِّج له مع أفرقاء حكوميين آخرين أن لا عودة إلى الوراء، وتطلّب الأمر استقالة الحكومة برمتها، وتأليف أخرى تواكب زخم العهد الجديد، فأي شيعي سيجرؤ على الانضمام إليها؟
ولكن ماذا عمّا يحكى عن تباينات، ليس بين أفرقاء السلطة، فحسب وحتى ما بين الرئاستين الأولى والثالثة، ولكن أيضاً بين طرفي الثنائي الشيعي؟ صحيح أن "حزب الله" لم يعلّق بعد، حتى كتابة هذه السطور، على مقررات مجلس الوزراء، إلا إذا عددنا مسيرات الدراجات النارية في أحياء الضاحية الجنوبية تعبيراً رافضاً، لكن الرئيس نبيه بري وجد في المقررات إيجابيات. وقال "إن الرياح السامة بدأت تنطوي"، و"إن خطة الجيش حافظت على السلم الأهلي"، رافضاً أي احتجاج في الشارع. وتفيد معلومات اشتُمَّ منها، قبل جلسة مجلس الوزراء، عدم رضى الـ "حزب" عن مواقف لبري، تبدو أقرب إلى التسليم بتسليم السلاح، منها إلى الحفاظ عليه، قبل انسحاب إسرائيل من الأراضي التي تحتلها في الجنوب، ووقف اعتداءاتها المستمرة، وإطلاق الأسرى وعودة الأهالي إلى قراهم وإعمار الجنوب.
تخوف ثان: المعروف في علم السياسة، أن السياسة في مفهومها الكبير هي التلاقي مع الحدث والتأثير فيه، وليس محاولة اللحاق به، وتحمل نتائجه. سلطتنا الحالية فُرضت علينا من خارج. أطلقت للخارج وعوداً، تحاول تنفيذها عبثاً، حتى الآن. وهي واقعة بين شاقوفين. ويل لها إن لم تنفّذ. وويل لها إن نفّذت، فتطيح السلم الأهلي والاستقرار.
تضغط إسرائيل على لبنان، منذ حرب الإسناد، حتى الآن، حرباً وغارات واغتيالات واعتداءات وتدميراً واحتلالاً وممارسات ضد المدنيين وحتى ضد قوات اليونيفيل. لا أحد يردعها، لا بل تسعى الولايات المتحدة بكل ما أوتيت من نفوذ وقوة، إلى حمايتها، وحذار أن يقول لها أحد "يا ما احلى الكحل بعينك". ضوء أخضر أمامها لفعل ما تريد إسرائيل، ولا شيء يمنعها، إذا لم تعجبها مقررات الحكومة اللبنانية، التي بقيت سرية، من تصعيد أدائها العسكري بحجة عجز السلطة اللبنانية عن نزع سلاح "حزب الله".
فلا لاقت هذه السلطة الأحداث الكبرى، ولا أثّرت فيها، لا بل تراها تلهث وراء الرعاة الدوليين تنفّذ أجندتهم ومطالبهم... وما عليها ساعتذاك سوى تحمل النتائج.
تخوف ثالث: هل يتحمّل لبنان حرباً تشنّها إسرائيل تدمّر ما بقي منه قائماً، فتقضي على كل قوة فيه، وتخرج "حزب الله" من المعادلة اللبنانية؟ فماذا يبقى من عهد لم يمرّ على قيامه تسعة أشهر؟ وأي فاتورة سيدفع اللبنانيون، قادة ومسؤولين وشعباً، حينذاك؟ تشرذم؟ تقسيم؟ رضوخ لسلام مع إسرائيل؟ وضياع مردود ثرواتنا الطبيعية المخفية في باطن الأرض وقعر البحر؟
ولئلا تصبح هذه المواقف مشروعة وتترجم غداً، لم يفُّت الأوان للسلطة القائمة بعد، أن تطبّق ما ورد في خطاب القسم والبيان الوزاري، أي الشروع في وضع استراتيجية دفاعية، أو استراتيجية أمن وطني، تقوم على حوار وطني جامع، يسلّم بموجبها السلاح بطمأنة حملة السلاح، ويصبح القرار في يد الجيش اللبناني والقوات المسلحة الشرعية، فيرضى الرعاة الدوليون والإقليميون، وتنتزع الحجج من إسرائيل فتنصاع وتوقف غطرستها، وتأمن كل مكونات الوطن لغدها، وينزل أفرقاء لبنانيون عن شجرة الاستفزاز والمكابرة والاستقواء بعضلات غيرهم، وهم ليسوا سوى "ردّيدة" في جوقة زجل.
فلنكن جميعاً الراعي الذي يقود القطيع إلى المرعى، لا الجزار الذي يرسله إلى المسلخ.