في هذا الجزء الرابع من الفصل الثاني من كتاب د. نمر فريحة الرئيس السابق للمركز التربوي للبحوث والإنماء بعنوان "منهاج التاريخ وكتبه، شهادة للتاريخ" يتناول الكاتب تداعيات محتوى كتاب الصف الثالث الأساسي.

دعاني الوزير وأعضاء الهيئة إلى اجتماع في مكتبه في 8 تشرين الأول 2001 لمناقشة موضوع الكتاب الذي أثار الجدل. ودعا إلى الاجتماع أيضاً ممثلي نقابات المعلّمين!! حين كنّا كأعضاء الهيئة نعتقد أن الاجتماع مخصَّص لمن لهم علاقة مباشرة بتأليف الكتاب أو تدقيقه. وسمع المجتمعون ملاحظات حول الوقائع التاريخية الواردة في الكتاب بشكل تهكّمي، من قبَل من هم غير متخصصين في التاريخ! فاعترضت ورفضت كلاما كهذا. ووُضِع محضر حول الاجتماع.

كان الوزير غاضباً ممّا تضمّنه الكتاب مثل: جنسية زوجة طه حسين الفرنسية، وقبول عبد القادر الجزائري وساماً فرنسياً لأنه حمى مسيحيي دمشق عام 1860، وتجنيد حسن كامل الصبّاح إجبارياً في الجيش العثماني!!! إنها وقائع تاريخية لا يمكن تزويرها لإرضاء مزاج فلان أو علتان. لقد تصمّن كتاب الصف الثالث سِيَر بعض المفكّرين والأشخاص الذين كرّسوا حياتهم لخدمة وطنهم لبنان، أو الإنسانية بشكل عام، كنماذج. فماذا كان يريد الوزير من المؤلّفين أن يكتبوا؟!

وسأل أحد أعضاء الهيئة الوزير عمّا يريد فعله في هذا الدرس. فأجاب بأنه يريد إلغاء الخط الزمني الذي يتضمّن ذكر "الفتح العربي". فقال الجميع: لنلغِ الدرس كله ثم نُعِد صياغته للسنة المقبلة بطريقة لا تترك مجالاً للشك من خلال تفسيرات لم تكن في ذهن مؤلّفي الكتاب ولا من دقّق محتواه. فقال الوزير متوجهاً إليّ: أريد أن أرى كتب الرابع والخامس والسادس التي تقول إنها في الطباعة.

أجبته: كتاب الصفين الرابع والسادس قيد الطباعة بينما كتاب الصف الخامس ما زال لدى الهيئة الاستشارية التي تقوم بتدقيقه. والكتابان الأولان على "الأوزاليد"، وإذا شئتم سأطلب جلبهما من المطبعة غداً وأرسلها لكم. لكن متى تعيدونهما؟

قال: خلال 48 ساعة. وإذا عندي ملاحظات سأرسلهما مع هاتين النسختين.

قلت: غداً صباحا تكون النسختان في مكتبكم.

وهذا ما حصل، ومرّت الأيام والأسابيع. ومرّت ثلاث عشرة سنة وما زال هذان الكتابان لدى الوزير.

ظهر الوزير بعد ذلك في مقابلة تلفزيونية وراح يكيل "المديح" للمركز بأنه يؤلف كتباً مليئة بالأخطاء، وغيرها من الاتهامات غير الصحيحة، إذ سمح لنفسه بقول ما طلبه منه فريق من "النمّامين"، وهذا وصف دقيق لنوعية أفراد مجموعة تشكّلت من الوزارة والمركز، وكانوا معروفين بالاسم لدى الكثيرين، وهمّهم أن يخبروا الوزير أقاويل وقصصاً فبركوها. ولم أكن أتصوّر أن هؤلاء الذين ينظر إليهم المجتمع بتقدير نظراً للدور المنوط بهم في تربية الأجيال ينزلقون إلى هذا الدرك في سلوكهم. وهذا ما اضطرّني للرد عبر الصحافة أيضاً دفاعاً عمّا كان يقوم به المركز وعدم القبول بجرّنا إلى مهاترات إعلامية لأنّ دور هذه المؤسسة أسمى من ذلك، خصوصاً أنها كانت ورشة عمل دائمة نظراً إلى عدد المشاريع التي تنفّذها، والكتب التي تم تأليفها في تلك الستة للمرحلة الثالثة من تطبيق المناهج، وهي كتب الصفوف الثالث والسادس والتاسع الأساسي وكتب الصف الثالث لمرحلة التعليم الثانوي بفروعه الأربعة.

قبيل أزمة التاريخ عمل ما يزيد عن مئتي أستاذ جامعي وثانوي وخبير تربوي بشكل دؤوب لتأمين الكتب كلها قبل بداية السنة الدراسية. وفي المقابل، كان همّ الوزير وحاشيته وضع العصيّ في الدواليب لتأخير إصدار الكتاب من جهة، وليثبت للرأي العام أنه هو الأمر الناهي في التربية، مع أن هذا الحقل لا يصلح أن يكون حلبة لعرض العضلات، بل هو حقل إظهار القدرات الفكرية والإنجازات الأكاديمية التي يستفيد منها تلامذة الوطن وليس بعض الأفراد.

ردّ المركز على حملة التجنّي لم يجعل الأكثرية تقرأ وتفكّر بما ورد خصوصاً أنه لم يكن دفاعاً عن شخص بل عن مؤسسة. وعلى العكس، قام عدد من النواب والنواب السابقين بمهاجمة المركز ورئيسه، وأحدهم أراد "تبييض وجهه" بأن طلب محاكمة رئيس المركز. وهذا ما تمنّيته فعلاً لأفضح تجاوزات ونفاق من تدخّلوا بموضوع الكتاب. لكنّ طلبه لم يستجَب.

وسمعت كلاماً يُتداوَل في الوزارة أن الوزير يريد إقالة رئيس المركز خصوصاً بعد اتفاق رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة على ملء الفراغات في الإدارة، وأن يعطى كل وزير حرية تعيين المدير العام الذي يريده ويرتاح للعمل معه!!! وكأن الإدارة العامة هي مجالسة الأصحاب، وتأمين جو الأنس بين الوزير والمدير ورضى الحاشية عن المدير العتيد نظراً للمنافع المتوقعة منه.

فكّرت بمقابلة رئيس الجمهورية لأضعه في جو ما يحصل. وما شجّعني على ذلك هو ذاك الاجتماع في مكتبه في القصر الجمهوري عندما وضعته في جو المضايقات التي أتعرّض لها دون أي مبرّر لأنني مصر على العمل بموجب القانون، ومتمسك بصلاحياتي التي يعطيني إياها القانون، بينما الوزير يريد التدخل في أمور لا تخصّه في المركز. وأردفت في لقائي مع الرئيس: إن لزملائي الذين أعرفهم مرجعيات سياسية تمنع عنهم الضغوط من الجهات التي تودّ ذلك. وأنا لست محسوباً على أي فئة سياسية لأنني لا أريد ذلك. فقال لي على الفور: أنا مرجعيتك ولا تخشَ تجاوزات أحد. ومع نهاية الاجتماع الذي كان ودّيّاً أعطاني بطاقة عليها اسمه وعدّة أرقام هاتفية بينها ثلاثة أرقام مُيِّزت باللون الأصفر. وقال لي احتفظ بهذه البطاقة وعندما تشعر بأن أحداً أياً كان يتجاوز حدود القانون معك اتصل بي شخصياً.

في أوج معركة كتاب التاريخ لم يبق لي من مرجع إلا "فخامته". هذا ما قاله وهذا ما اعتقدته. فقد كنت اتصلت ببعض السياسيين وطلبت مواعيد لأشرح لهم حقيقة الأمر بالنسبة إلى الكتاب وكيف يمكن معالجة الخطأ الذي يدّعي الوزير وجوده، إذا كان هناك من خطأ. لكنني فوجئت أن ثلاثة من أربعة طلبوا من مكاتبهم إبلاغي إلغاء الموعد! لم أكن لأصدّق ما يحصل. هل خاف هؤلاء من وزير التربية إذا اجتمعوا بي؟ هل أنا "فيروس وطني" لأن الكتاب الذي أشرف عليه يذكر استقلال لبنان لأطفال في الصف الثالث أساسي، بينما كان المسؤولون يخجلون من ذكر استقلال لبنان بما يتضمّنه التعبير من معانٍ في ذلك الوقت؟ هل خافوا من السوريين؟ عندها قرّرت أن أشرح الأمر من ألفه إلى يائه لرئيس الجمهورية، خصوصاً أنه هو من طلب مني ذلك متى احتجته.

اتصلت بأحد الأرقام التي على البطاقة التي أعطاني إياها الرئيس فأجابني أحد مساعديه أو مرافقيه. عرّفت عن نفسي وأوضحت له أن الرئيس أعطاني البطاقة وطلب مني الاتصال عند اللزوم وأنني أودّ أن أقدّم له كتابّي التاريخ وأوضح بعض الأمور التي أثارها الوزير، وتمنيت تحديد موعد عاجل لأن الأمر اضطراري. فأجابني بأنه سيبلغ الرئيس ويعود للاتصال بي. مرت بضعة أيام بدون جواب. اتصلت من هاتفي الخاص أكثر من مرة ولم يجل أحد. وصلت الرسالة. حتى رئيس البلاد بات في حالة يرفض فيها سماع وجهة نظري حول الموضوع، وهو الذي قال لي أنه مرجعيّتي. هل خاف الرئيس من الوزير أيضاً؟ لن أعلّق بأكثر.