في ظل التحديات الاقتصادية والسياسية المتصاعدة التي يعيشها لبنان، تتجه الأنظار نحو القطاع الخاص، وبخاصة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، كمحرّك محتمل للإنقاذ الاقتصادي والنمو المستدام. وفي هذا السياق، شكّلت ورشة العمل التي نظّمها البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية (EBRD) بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي ووزارة الزراعة اللبنانية، الأسبوع الماضي، محطة استراتيجية لدعم قطاع إنتاج النبيذ في لبنان، من خلال تسليط الضوء على إمكانيات الذكاء الاصطناعي والروبوتات في تعزيز استدامة هذا القطاع وزيادة قدرته التنافسية.

التحول التكنولوجي في قلب قطاع تقليدي

ورشة العمل التي جمعت أكثر من 70 مؤسسة محلية وممثلين عن القطاعين العام والخاص، شكّلت منصة لتبادل الخبرات ومناقشة الحلول المبتكرة التي تتيح لصغار منتجي النبيذ تجاوز التحديات التقنية والبيئية. فبينما تشتهر صناعة النبيذ في لبنان بجذورها العريقة وجودة إنتاجها، إلا أنها تواجه اليوم صعوبات تتعلق بندرة الموارد، عدم الاستقرار، وارتفاع كلفة الإنتاج والتصدير. وهنا يبرز الذكاء الاصطناعي كأداة ثورية لتحسين الإنتاجية، رفع الجودة، وترشيد استهلاك الموارد الطبيعية مثل المياه والطاقة.

دعم أوروبي طويل الأمد

منذ العام 2018، قدّم البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، بتمويل من الاتحاد الأوروبي، الدعم لأكثر من 330 شركة لبنانية من خلال أكثر من 450 مشروعًا. والآن، مع إطلاق برامج الابتكار والتحول الأخضر، يدخل قطاع النبيذ اللبناني ضمن أولويات هذا الدعم، مما يفتح الباب أمام تطور تكنولوجي شامل في هذا المجال. وقد أكّد السيد خليل دنغزلي، رئيس مكتب البنك الأوروبي في لبنان، أن كل الجهود تندرج ضمن ثلاثة محاور: التحول الرقمي، التحول البيئي، وتحقيق الشمول الاقتصادي، معتبرًا أن هذا الحدث يجسّد هذه الأولويات جميعًا.

شهادات من الميدان: العلم في خدمة الانتاج

قدم خبراء الورشة أدوات برمجية وتطبيقات قائمة على الذكاء الاصطناعي تساعد في مراقبة نمو العنب، التنبؤ بالأمراض، وتحسين نوعية النبيذ بشكل أكثر دقة وفعالية. كما تطرقت الجلسات إلى كيفية الالتزام بالمعايير الدولية للاستدامة، ما يسهّل على المنتجين اختراق أسواق جديدة عبر التصدير. في المقابل، عرض صانعو النبيذ المحليون التحديات الميدانية، أبرزها تقلبات المناخ، شح الموارد، وضعف البنية التحتية.

رؤية استراتيجية من وزارة الزراعة

وزير الزراعة نزار هاني أكد في حديث لموقع "الصفا يوز" أهمية إدماج الذكاء الاصطناعي ضمن استراتيجية القطاع الزراعي، مشيرًا إلى أن "قطاع النبيذ ليس مجرد نشاط اقتصادي بل عنصر أساسي في الهوية الثقافية اللبنانية". كما شدّد على أهمية التعاون بين الوزارة، المنظمات الدولية، والجامعات من أجل تسخير التكنولوجيا في خدمة الزراعة المستدامة، بما يخلق فرص عمل جديدة ويعزز تنافسية لبنان عالميًا.

الاستثمار في المستقبل

الرسائل الصادرة عن الاتحاد الأوروبي والبنك الأوروبي كانت واضحة: الابتكار ليس ترفاً بل ضرورة اقتصادية. فالاقتصاد اللبناني، المحاصر بالأزمات، يحتاج إلى مضاعفة الجهود لدعم القطاعات الإنتاجية المرنة، وصناعة النبيذ واحدة منها. من جهتها، أشارت أليساندرا فيزر، ممثلة الاتحاد الأوروبي في لبنان وسوريا، إلى أن الشراكات المستدامة مع مؤسسات مثل EBRD ضرورية لضمان استمرار النمو رغم الأزمات.

صناعة النبيذ اللبنانية: بين الهوية والابتكار

لم تعد صناعة النبيذ في لبنان مجرد تراث، بل باتت نقطة التقاء بين التقاليد والابتكار. إن استخدام الذكاء الاصطناعي في مراقبة المحاصيل، إدارة عمليات التخمير، وتحليل الأسواق يُعد خطوة نوعية نحو عالم أكثر استدامة. وبتكاتف الجهات الرسمية والدولية، يمكن تحويل هذا القطاع إلى قصة نجاح حقيقية تُحتذى في باقي المجالات الإنتاجية.

في ظل ما يواجهه لبنان من صعوبات متراكمة، تبقى المبادرات الداعمة للابتكار والتحديث هي الأمل الحقيقي في بناء اقتصاد أكثر صمودًا وعدالة. ورشة العمل حول الذكاء الاصطناعي في صناعة النبيذ ليست مجرد نشاط تقني، بل هي رؤية متكاملة لمستقبل يعتمد على المعرفة، البيئة، والشراكة الذكية. فهل تكون صناعة النبيذ أولى بوابات التحول الأخضر والرقمي في لبنان؟ يبدو أن الطريق قد بدأ، والدعم الدولي حاضر، والإرادة موجودة.