ما كان يُعد يومًا مجرد فكرة مستقبلية أصبح اليوم حجر أساس في تطور الرعاية الصحية: الذكاء الاصطناعي. لقد تجاوز هذا الابتكار نطاق النظريات ليترسخ كأداة فعّالة تُعيد صياغة أسس الطب الحديث، سواء في تشخيص الأمراض أو في ابتكار أساليب علاجية أكثر دقة وفعالية. في ظل الضغوطات التي تواجه الأنظمة الصحية حول العالم، تحوّل الذكاء الاصطناعي من فكرة مساندة إلى عنصر مركزي في تطوير الخدمات الطبية.

التحوّل الرقمي في قلب المنظومة الصحية

في حديثه إلى احدى الصحف اللبنانية، لفت الدكتور أنطوان صعب، مدير الجودة وسلامة المرضى في المستشفى اللبناني الجعيتاوي الجامعي، إلى أن الذكاء الاصطناعي دخل ميدان الرعاية الصحية متأخرًا نسبيًا، لكنه سرعان ما أثبت أهميته، خاصة بعد أن أثبتت الدراسات الأخيرة مساهمته في تحسين الخدمات الصحية على مختلف الأصعدة.

من خلال الخوارزميات المتقدمة، بات بالإمكان إجراء تحليلات دقيقة لبيانات المواطنين الصحية على نطاق وطني، ما يفتح الباب أمام سياسات صحية استباقية، ويوفّر إمكانيات لتقليل التكاليف وتسريع الإجراءات، إضافة إلى تقديم علاج مخصص لكل مريض بناءً على معطياته الجينية.

ويُستخدم الذكاء الاصطناعي حاليًا في دعم القرارات الطبية، وتحليل الصور الشعاعية بدقة عالية، وحتى في التنبؤ بتدهور الحالة الصحية للمريض بشكل مسبق. ومن الابتكارات اللافتة، تقنية "الذكاء الاصطناعي المستمع" التي توثّق ما يدور بين الطبيب والمريض تلقائيًا ضمن الملف الطبي، مما يقلل من العبء الإداري.

رغم هذا التطور، يُشدّد الدكتور صعب على أن دور الذكاء الاصطناعي يجب أن يظل مكمّلًا للعنصر البشري، إذ لا يمكن للخوارزميات أن تستوعب الجوانب العاطفية أو الاجتماعية التي قد تكون مؤثرة في اتخاذ القرار الطبي.

التحديات... من التقنية إلى الأخلاق

أشار الدكتور صعب إلى عدد من العقبات التي لا تزال تواجه الذكاء الاصطناعي في القطاع الطبي، منها عدم دقة بعض التوصيات الصادرة عن الخوارزميات، وتفاوت تقبّل الكوادر الطبية لهذه التقنيات الجديدة، إلى جانب التحديات الأخلاقية المرتبطة بحماية خصوصية المرضى. لذا، دعا إلى إشراك الأطباء في تصميم هذه الأدوات وتطويرها منذ البداية، وضمان وجود إشراف بشري صارم على نتائجها، تفاديًا لأي أخطاء قد تمس سلامة المرضى.

كما نبّه إلى أن اعتماد أنظمة ذكاء اصطناعي "عالمية" قد يكون غير دقيق في بيئات طبية محلية متباينة، ما يستدعي تطوير حلول مُخصصة تنطلق من بيانات كل مؤسسة على حدة، مع الحرص على تجنّب الانحيازات التي قد تنشأ عن تدريب الخوارزميات على بيانات غير شاملة.

وختم الدكتور صعب بالتأكيد على أن المستقبل يتّجه نحو تعزيز الطب الوقائي عبر أدوات ذكية تُراقب المؤشرات الحيوية لحظيًا من خلال الأجهزة القابلة للارتداء، أو عبر أجهزة نانونية مزروعة داخل الجسم تكتشف إشارات مبكرة لأمراض معقّدة كالسرطان. كما شدد على أهمية البصمة الجينية التي يمكن الاستفادة منها منذ الولادة لتحديد المخاطر الصحية مستقبلاً والتصرف بناءً عليها.

حماية البيانات الطبية: التحدي الأكبر في عصر الذكاء الاصطناعي

من جهة أخرى، يرى جاك جندو، خبير التحول الرقمي، أن توظيف الذكاء الاصطناعي في الطب يطرح إشكاليات أخلاقية وقانونية متشابكة، إذ يتحدث عن ثلاثة محاور رئيسية: تحيّز البيانات، غموض المسؤولية القانونية، وتراجع التفاعل الإنساني بين الطبيب والمريض.

يقول جندو إن بعض الخوارزميات قد تكرّس لا شعوريًا أنماطًا منحازة ضمن قرارات التشخيص، نتيجة اعتمادها على بيانات غير متوازنة. كما أن موضوع المسؤولية القانونية عند وقوع أخطاء طبية باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي ما زالت غير محسومة: هل يتحمّلها الطبيب؟ أم المطوّر؟ أم مزوّد النظام؟

ويضيف أن الإفراط في الاعتماد على الأنظمة الذكية قد يضعف العلاقة الإنسانية بين الطبيب والمريض، ما ينعكس على جودة الرعاية. ولهذا السبب، يدعو إلى إطار قانوني ذكي لحماية البيانات، يتضمّن حلولًا تقنية مثل تشفير البيانات وتطبيق مبدأ الخصوصية من مرحلة التصميم، إلى جانب تفعيل المراجعة المستقلة لكل نظام قبل استخدامه.

مستقبل الذكاء الاصطناعي في الرعاية: شريك لا بديل

بحسب جندو، فإن الذكاء الاصطناعي في الطب يسير نحو أن يصبح "شريكًا ذكيًا" يتكامل مع الطبيب بدلًا من استبداله. ويتوقع أن نشهد خلال السنوات المقبلة أنظمة تفهم السياق الاجتماعي والنفسي للمريض، وليس فقط حالته السريرية.

كما يشير إلى بروز ما يُعرف بـ "التوأم الرقمي"، وهو نموذج افتراضي يحاكي كل مريض على حدة، يُستخدم لاختبار خطط العلاج قبل تنفيذها فعليًا. ويُتوقّع أيضًا أن تنمو أهمية العلاجات الشخصية، المبنية على التحليل الجيني ونمط الحياة.

وبرغم كل هذا التقدم، يُقرّ جندو بأن الذكاء الاصطناعي لن يكون قادرًا خلال العقد المقبل على إجراء عمليات جراحية كاملة دون إشراف بشري مباشر. فالتعامل مع الحالات الطارئة والمعقّدة يتطلب مرونة وحدسًا لا يمكن للآلات محاكاته حتى الآن.

وفي ختام حديثه، كرر جندو مقولة لعلها تختصر كل النقاش حول دور التكنولوجيا في الطب:

"الذكاء الاصطناعي في الصحة ليس بديلاً عن الإنسان، بل امتداد لذكائه، يهدف إلى تعزيز الرعاية وتحقيق العدالة الصحية الشاملة."