في نهاية الجولة الأولى للانتخابات البلدية والاختيارية "وقف كل ديك على مزبلته يصيح"، على ما يقول المثل اللبناني الدارج، وقد "ربح الجميع"، على ما كان يقول مقدّم البرامج التلفزيونية الفرنسي الشهير جاك مارتان بعد كل حلقة يتبارى فيها الأطفال في الغناء.

بحجة أن الانتخابات البلدية والاختيارية محلية الطابع وفيها دور بارز للعائلات، وهي تختلف عن الانتخابات العامة، ذات الطابع السياسي، تحررت الأحزاب من عقائدها وتحالفاتها السياسية ونُسجت تحالفات مرحليّة ضيّقة لا علاقة لها بأدبيّاتها السياسية. وهذا، لعمري، تناقض صعب التفسير والتبرير. كيف يمكن تبرير تحالف مرحلي في انتخابات بلدية بين متخاصمين إلى حد العداوة والتخوين؟ لا تبرير سوى حماية مصالح ضيّقة بين مدّعي الطهارة والقداسة ومن يتّهمونهم بالرجس والنجاسة.

كيف يجد "حزب الله" وحزب الكتائب، مثلاً، أرضية مشتركة لتحالف في الانتخابات البلدية في بلدة بياقوت المتنية، ولا يستطيعان إقامة حوار جدّيّ طويل النفَس على مسائل حيوية تتعلق بلبنان كله وليس فقط بقرية في المتن الشمالي. ألهذا الحدّ تضيق مساحة اللقاء بحيث لا تتعدّى قرية وتمنع المصالحُ الضيّقة والفردية اللقاءَ الأعمّ؟ وما يسري على هذين الحزبين يسري أيضاً على سائر الأحزاب والحركات والقوى وغرائب تحالفاتها المحلية (الدامور وجونيه وسواهما).

البلدات التي تم فيها التوافق مسبقا بين مراكز القوى والمصالح فيها لم تجرَ فيها الانتخابات وفازت المجالس البلدية والاختيارية بالتزكية. والبلدات التي سجّل فيها فريق محلي فوزا واضحا على فريق أو فرقاء آخرين حظيت بمجالس بلدية واختيارية متجانسة قادرة على العمل والإنجاز.

لا يعترف أحد بالخسارة

أما البلدات التي جرت فيها معارك انتخابية وصفت بـ "الطاحنة" و "أم المعارك" وفازت فيها ائتلافات غير المتجانسين، فهي عرضة للشلل عن\ أول مطبّ على الطريق.

في لبنان، كما في الشرق، لا يعترف أحد بالخسارة. الفائز يحتفل بنصره والخاسر يلوم كل أخصامه ويشيد بقدرته الشخصية (وحده أمام تحالف الكون!). قد يكون هذا المنطق سليماً لكنه يعصى على الفهم. اللهمّ إلا إذا كان القصد من الترشح الخسارة لإعفاء النفس من هموم الخدمة العامة.

في لبنان لا فرق بين الانتخاب على أساس اتفاق العائلات والانتخاب وفقاً لحشد الأحزاب السياسية ورغبتها. ففي نهاية الأمر تجرى الانتخابات وفقاً لقرار سياسي حتى ولو كان هدفها الإنماء.

في الأصل كل سياسة هدفها الإنماء. والإنماء هو في نهاية المطاف قرار سياسي. وواجب كل سلطة، محلية كانت أم على مستوى البلد كله، أن تنمي مجتمعها وتسهر على راحة شعبها.

كان واجباً على الحكومة أن تنظّم الانتخابات البلدية والاختيارية المؤجّلة أكثر من مرة، ونجحت في ذلك في يومها الأول ولا شيء يمنع استمرار التنظيم الناجح في الأيام الآتية. لكنّ البلديات تحتاج إلى موازنات لتعمل في نطاقها المحلي، ولا يمكنها تحقيق الكثير إذا كان المال الذي تجنيه من الساكنين والعاملين في نطاقها في يد سلطة مركزية تحرمها منها وتنفقُها على ما ليست مخصصة له.

كي يحصل الإنماء يجب تحرير موارد البلديات (الضرائب والرسوم) من قبضة الحكومة المركزية التي فشلت إلى الآن في مهماتها الإنمائية المتوازنة. الحوكمة تبدأ من الوحدات الصغرى ثمّ تتدرج.

إذا كان مهمّاً إجراء الانتخابات المحلية، فالأهم تمكين البلديات من العمل.