قبل ثمانون عاماً أبصر قانون العمل اللبناني النور. القانون الذي شكل حينذاك نقلة نوعية في تنظيم العلاقة بين أطراف الإنتاج وانتصاراً للعمال، تخطاه الزمن. خلال العقود الثمانية المنصرمة اختفت وظائف وولدت أخرى. ونشأت أشكال جديدة في علاقات العمل. وتغيرت النظرة إلى مكان العمل وظروفه. ثم أوجبت التشريعات الدولية أن يتسم العمل بالتشاركية، والعدالة الاجتماعية، والديمقراطية. وفرضت التغيرات توفير بيئة عمل سليمة، تحمي العامل جسدياً ونفسياً... وبقي قانون العمل نفسه. فعلق القانون في "ثلاجة" الكسل التشريعي، فيما أوضاع العمل والعمال تغلي منذ سنوات.

في خضم التحولات الجذرية، وفي ظل صمت الأجهزة الرسمية، أخذ "المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين" المبادرة، وأطلق العام الماضي أوسع حوار لإعداد "تعديل شامل لقانون العمل بما يتلاءم مع المتغيرات". وتحت عنوان "نحو قانون عمل إجتماعي وإنساني يواكب العصر والمتغيرات في علاقات العمل"، عقد المرصد ورشة العمل الثانية هذا العام بالشراكة مع المجتمع المدني والجمعيات المدنية وبعض الاتحادات العمالية.

القانون القديم محدود وإذعان

قانون العمل الذي صدر في العام 1946 وهدف إلى تنظيم علاقات العمل بين الأجراء وأصحاب العمل، وحماية حقوق جميع الأطراف "لبّى سوق عمل مختلف جذرياً عن يومنا الراهن، وعبر علاقات وعقود عمل مختلفة"، يقول رئيس المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين د. أحمد الديراني. "عدا عن تضمنه العديد من الثغرات منذ إصداره، القانون الذي يفترض به أن يكون عادلاً، يجب أن يكون شاملاً ديمقراطيا،ً وهذا ما ينقص القانون"، بحسب الديراني. "فيكفي ذكر المادة (7) التي تستثني الكثير من الفئات العمالية وتحرمها من الحماية القانونية ليكون القانون غير شمولي". فهو يستثني الخدم في بيوت الأفراد، والنقابات الزراعية التي لا علاقة لها بالتجارة والصناعة، (وُعدت بوضع تشريع خاص لها). والمؤسسات التي لا يشتغل فيها إلا أعضاء العائلة تحت إدارة الأب والأم والوصي، والإدارات الحكومية والهيئات البلدية فيما يتعلق بالمستخدمين والأجراء والمياومين والمؤقتين الذي لا يشملهم نظام الموظفين، (كما الفئة السابقة فإن الوعود بوضع تشريع خاص لها بقيت حبراً على ورق).

أما من زاوية الديمقراطية فإن القانون المعمول به يعتبر إذعاني. فـ"هو يمنع تشكيل النقابات إلا بإذن مسبق من وزارة العمل ورقابة دائمة. ويمنح الوزارة سلطة مطلقة بحل النقابات واتحاداتها ساعة تشاء"، يضيف الديراني، "بمخالفة واضحة وصريحة للمادة 87 من اتفاقية منظمة العمل الدولية. كما أنه يحرم موظفو القطاع العام من حرية إنشاء النقابات والتكتل ضمنها للدفاع عن حقوقهم".

تهميش ذوي الإعاقة

إضافة إلى هذه الثغرات، لا يأخذ قانون العمل اللبناني التغيرات الجذرية في سوق العمل. فهناك فئات عمالية لم تكن موجودة سابقاً، وبالتالي لم يطلها القانون أو يحمها. وذلك على غرار أصحاب الحاجات الخاصة، والمياومين والعمال عن بعد، و العمال المستقلين (freelancers )... وغيرها العديد من الفئات.

في الوقت الذي يمثّل الأشخاص ذوو الإعاقة في لبنان ما بين 10 و15 في المئة من إجمالي عدد السكّان، أي ما يقرب من 750 ألف شخص، لا يقيم قانون العمل أي اعتبار لهذه الفئة. حتى أن ذوو الإعاقة يوضعون بخانة "أصحاب عاهات"، عند التقدم إلى الوظائف العامة، تقول مديرة "جمعية حل.تك"، آمال شريف، "ولا يمثل هذا التصنيف واحداً من العوائق للتقدم إلى الوظائف العمومية فحسب، إنما تمييزاً فاضحاً وانتهاكاً صارخاً لحقوق المعوقين، لم يعد موجوداً في كل التشريعات في الدول الاخرى". ويجب ربط قانون العمل بـ"قانون ذوو الاعاقة 220 220/2000 الذي يخصص وظائف في القطاع العام للأشخاص المعوقين بنسبة ثلاثة في المئة على الأقل من العدد الإجمالي للفئات الوظائف جميعها"، تضيف شريف. "ويجب أيضاً أن يفرض قانون العمل على المؤسسات الخاصة تسهيل وصول ذوي الاعاقة وتوظيفهم وليس معاملتهم كفئة مستثناة".

اللامبالاة حالت دون تطوير قانون العمل

من الواضح أن قانون العمل بصيغته الراهنة لا يخدم العمال ولا أصحاب العمل ولا الدولة، فلماذا لم يتم تعديله؟ بسبب "اللامبالاة"، يجيب رئيس اتحاد "نقابات موظفي المصارف" النقيب جورج الحاج، "وهو ما يحبط الموظفين ويحد من رغبتهم في الانتساب إلى النقابات. ذلك مع العلم أننا أحوج ما يكون إلى نقابات ديمقراطية حرة مستقلة لا طائفية تدافع عن حقوق العمال في ظل الصعوبات والتحديات التي يعيشونها وتحصل حقوقهم المهدورة من رواتب وتأمينات وضمانات وتعويضات". ومن بعد وضع التعديلات على قانون العمل على سكة العمل الجاد والسريع، فان "الأمل بالوصول إلى محطة قانون عادل وعصري يواكب كل المتغيرات التي طرأت على سوق العمل أصبحت قريبة"، من وجهة نظر الحاج.

خلال العامين المنصرمين أنجزت "لجنة تعديل قانون العمل" المنبثقة عن لقاء "المرصد" والمجتمع المدني والخبراء والقانونيين والنقابيين، الإطار المرجعي والقانوني الذي سيحكم التعديلات. ومن المنتظر أن تصدر النسخة الاخيرة الكاملة التي تتضمن كل التعديلات قبل نهاية هذا العام. ومن بعدها سيتم إطلاق أكبر حوار وطني لمناقشتها من جميع الأطراف المعنية. "فخلافاً لمسودات و اقتراحات تعديل قانون العمل الرسمية التي كانت تتم بغرف مغلقة، سنُشرك كل اطراف الانتاج وكل المرجعيات والمؤسسات الدولية وأصحاب القرار"، بحسب الديراني. ساعتذاك تنقل المسودة إلى مجلس النواب سواء كان باقتراح قانون أو مشروع قانون لدراستها والتصويت عليها، وإعطاء لبنان أخيراً قانون عمل حديث وعصري وعادل.

مرحلة التعديلات، على صعوبتها، قد تكون أسهل المراحل التي سيمر بها قانون العمل المزمع إصداره إذ من المتوقع أن يواجه إقرارُه معارضة "العقول المتحجرة" في القطاعين العام والخاص التي اعتادت "التشفي" بالعمال في ظل غياب سلطة القانون والفوضى وعدم الرقابة. فهل حجم المولود الجديد الضخم المنتظر سيعسر الولادة الطبيعية عما قريب؟