يطلّ أيار آخر ويعود عيد العمال في لبنان في حال من التدجين والشرذمة وتفريغ النقابات من دورها. القطاع النقابي الذي يشكل لاعباً أساسياً في تحديد مصير الشعوب والدول، استُهدف بشكل مبرمج كسائر القطاعات بعد "الطائف" بغية تدجينه ليكون طيّعاً بيد المحتل السوري والمنظومة السياسية التي تدور بفلكه. فكانت الشرذمة العمالية عبر "تشليع" كل نقابة الى نقابات، التدخل لفرض الأزلام أو الذميين في المواقع القيادية، تفريغ النقابات من دورها النضالي وتسخيرها خدمة لأهل السياسة أو أرباب العمل أو حتى "تفريخ" نقابات وهمية.
تسحّرت اللعبة الديمقراطية وغابت الوجوه النقابية النضالية الزاهدة بالمناصب والمنافع. تداخلت العوامل السياسية والحزبية والمالية والطائفية وتقاطعت على حساب ريادية الحركة النقابية. مع الإنسحاب السوري و انقسام البلاد بين 8 و14 آذار، شهدت نقابات المهن الحرة خلط أوراق وإن طغى الطابع السياسي عليها على حساب الطابع النقابي إلا أن النقابات العمالية بقيت راكدة نسبياً. فلا تغيير ولا إصلاح بل مزيد من الانشقاقات واتحاد عمالي يشكل إمتداداً لأسلافه منذ مرحلة 1990 من حيث الولاء السياسي والترهّل النقابي.
واقع النقابات العمّالية يؤكّد عمق المشكلة في لبنان والذي يتخطى البعد السياسي والديني
شكلّ تدفق السوريين الى لبنان بعد اندلاع الحرب عندهم عام 2011 "تسونامي" اجتاح سوق العمل ولم يكترث الى الفئات الممنوع على السوريين العمل بها ولا الى القوانين السارية المفعول إلى جانب زيادة حجم اليد العاملة الأجنبية التي إما دخلت إلى لبنان خلسة أو لم تجدّد أوراقها فأضحت غير شرعية. هذا التسونامي لم يهز النقابات العمالية، فظلت في حال ثبات.
شكلّ 17 تشرين 2019 وما رافق هذا الحراك من إنهيار غير مسبوق لليرة اللبنانية أمام الدولار وحجز لأموال المودعين وتعثر للدولة زلازلاً، إذ إنعكس فقدان الرواتب لقيمتها وصرفاً جماعياً للعمال وضرباً للأمن الاجتماعي وعجزاً للمؤسسات الراعية صحياً كوزارة الصحة والضمان الاجتماعي. هذا الزلزال لم ينقذ النقابات العمالية، فبقيت بما يشبه الموت السريري. بالتوازي أهمل الحراك خوض معارك تغييرية في النقابات العمالية لمصلحة المعارك السياسية والنيابية.
في 16/1/2020 ، بدأت وزارة العمل بإيعاز من وزير العمل كميل ابو سليمان بتوجيه إنذارات تمنح النقابات مهلة شهر لتسوية أوضاعها تحت طائلة اتخاذ الإجراءات القانونية المتاحة. أتت هذه الخطوة بناء على مسح أجرته الوزارة جراء تلمّس الوزير أبو سليمان وجود فوضى في العمل النقابي، وذلك تمهيداً لإطلاق ورشة لإستنهاض وتفعيل العمل النقابي.
أظهر المسح وجود 416 نقابة عمالية، 202 نقابة أصحاب عمل، 60 إتحاداً عمالياً وتسعة اتحادات أصحاب عمل مسجلة لدى وزارة العمل. بعد التدقيق، تبين أن هناك 80 نقابة أصحاب عمل و131 نقابة عمالية لم تجرِ إنتخابات وبعضها منذ العام 2000. أما في ما يخص الإتحادات، فهناك 52 إتحاداً عمالياً وأربعة اتحادات أصحاب العمل لم تجرِ انتخاباتها بشكل دوري. غير أن الحكومة إنتهى دورها بعد 5 أيام مع إبصار حكومة حسان دياب النور، فتفرملت الاندفاعة الإصلاحية التي كان يقودها أبو سليمان وعاد ملف النقابات ليرسو في النسيان والإهمال المتعمّد.
فهل يطل عيد العمال العام المقبل وسط ورشة لتجديد قانون العمل؟
اليوم، الإصلاحات المرجوة منذ مؤتمر باريس 2 والملحة أساساً للبنان والتي تخلّفت المنظومة الحاكمة عن السير بها منذ 23 عاماً تشكّل الممر الإلزامي لخروج لبنان من الانهيار الذي وصل إليه إلى جانب الخطوة الأولى وهي إنهاء دور سلاح حزب الله. فهل تكون فرصة لتشمل الإصلاحات النقابات العمالية في ظل الحاجة الملحة لوجود نقابات فاعلة تمثل العمال أو ارباب العمل خصوصاً في ظل الوضع المالي والإقتصادي والإجتماعي الراهن؟
في الحقيقة، واقع النقابات العمّالية يؤكّد عمق المشكلة في لبنان والذي يتخطى البعد السياسي والديني الى طبيعة الأفراد حيث قلّ الزهد بالمناصب مقابل الشراهة على نسج العلاقات مع أرباب العمل وأهل السياسة على حساب مصالح العمال. فكم من نقابيين يتمسكون بمواقعهم لدورات عدة أو يورّثون أبناءهم المناصب. لكن إن كانت المنظومة تحكم قبضتها على هذه النقابات، فتُفصّلها على حجم مصالحها، فهذا يجعل وجود حياة نقابية عمّالية فاعلة ومتجدّدة أكثر من مُلح.
أي إصلاحات لا بدّ أن تشمل تشجيع الشراكة بين القطاعين العام والخاص، تحسين بيئة الاستثمار، تشجيع الحوار الاجتماعي بين الحكومة والنقابات، تقليص حجم القطاع العام وإعادة هيكلته وتحسين الحوكمة. كل هذه الخطوات تتطلب وجود حياة عمالية نقابية متحرّرة من سلطة أهل السياسة وأرباب العمل. كما إن من المعيب أن لبنان ما زال يستند إلى قانون عمل وضع عام 1946. فهل يطل عيد العمال العام المقبل وسط ورشة لتجديد قانون العمل و انتفاضة عمالية نقابية على الركود والخنوع تواكب مشروع العبور الى دولة القانون والمؤسسات والعدالة الاجتماعية أم نهدر الفرصة مرة جديدة؟